“الآجام”..؟ و “الحسا”.. إشكالية تحوّلات اللغة
حبيب محمود
قبل أسابيع؛ فكّرت فيما يشبه قراراً من قرارات ما يُعرف بـ “ستايل بوك”، أو “كتاب الأسلوب” في “صُبرة”. القرار هو ألّا نكتب “الأوجام” بل “الآجام”، في تسمية البلدة الجميلة الرابضة شمال واحة القطيف. والسبب هو أن اسم البلدة الأصل ليس فيه “واو” بتاتاً، بل حرف مدّ يبرّر معنى اسم البلدة، من جمْع كلمة “أجَمة” على “آجام”.
والأجَمة ـ في اللغة ـ هي الأرض كثيفة الزرع؛ ولو عدنا إلى التاريخ البيئي في هذه الواحة المنفصلة غرباً؛ لفهمنا واقعية الاسم، حين كانت العيون الهدّارة تتدفق فيها وحولها، صانعة ما يُشبه الغابات أو الأحراش.
كانت قرية ذات آجام، فكان اسمها “الآجام”.
ولتسهيل نطقها في لسان سكان القطيف ـ الذي يتصرّف في “ال” التعريف غالباً ـ نطقوها “لاجام”، كما يقولون “لَمطار” أي الأمطار، و “لَبواب” أي “الأبواب”، و “لَعلام” أي “الأعلام”. ومن يُبدلُ منهم الجيمَ ياءً؛ سمّاها “لايام”..!
وعلى هذا تُعرف بعض الأسر من خارج البلدة، أيضاً، باسم “اللّاجامي” نسبةً إليها. ولا مريةَ في أن هذا هو الأصل، وهو الصحيح، في التاريخ، وفي المدوّنات الرسمية الأولى، وما زال كذلك على ألسنة كبار السن في القطيف، وليس في “الآجام” وحدها.
وأتذكر ـ قبل سنوات ـ أن الشيخ عبدالله الخنيزي؛ كاد يوبّخني في مجلسه، حين قلتُ “الأوجام”. وأستاذنا السيد عدنان العوامي أعاد عليّ آحاد المرّات اعتراضه على ورود اسم البلدة في “صُبرة” بصيغة الواو؛ “الأوجام”..!
وهذا كله صحيح، ومنطقي، إلا أن هناك ظواهر معروفة في علمَيْ اللغة والجغرافيا. تحديداً فيما يُسمّى علم “جغرافية الأسماء”، أو علم “الأسماء الجغرافية”. وهذا فرع عريض جداً من فروع علم الجغرافيا الذي يكاد لا يُحدّ ولا يتوقّف نتاجه عبر التاريخ.
أسماء الأماكن لا ضمان لثباتها على حالٍ بعينه، تماماً كما هو حال الجغرافيا، وحال اللغة. إنها تتحوّل، وتتغيّر، وتُدركها عوامل التعرية والتعديل باستمرار، كما يحدث للأرض التي تُعمّر في مرحلة زمنية، وتُهمَل في أخرى، وتخضرُّ في دورةٍ من دورات المجتمع وتتيبّس في دورة لاحقة..!
اسم المكان قد يضيقُ من اتساع كبير، وقد يتّسع من ضيق.
ولنأخذ أمثلة..
اسم “البحرين” اليوم؛ ضاق في أرخبيل من الجزر تحت كيان سياسي نعرفه بـ “مملكة البحرين”، في حين إنه كان إقليماً واسعاً في التاريخ العربي؛ يبدأ بجنوب البصرة ولا ينتهي إلا عند ما يُسمّى “شق عمان”، ويتعمّق وسط الجزيرة العربية حتى يمامة نجد..!
نجد، نفسها، تحوّل اسمها إلى “منطقة الرياض” الآن، والرياض كانت قرية من قرى نجد.
الزارة؛ كانت مدينة تعتصم بها بلاد البحرين القديمة. الآن ليست أكثر من حي صغير شرقيّ بلدة العوامية في القطيف..!
تحوّلات اللغة في الأسماء، وتحوّلات الجغرافيا في المساحات، تحدث صغيرة في البداية، ثم تتسع، ثم تترسّخ، وتُصبح أمراً واقعياً يُتعامَل معه كما هو. تماماً كما هو حال تحوّلات الحياة الأخرى، تحوّلات الاقتصاد، تحوّلات المجتمع، تحوّلات الثقافة، تحوّلات السياسة، بل حتى تحوُّلات الطبيعة نفسها..!
بعض التحوّلات تبدأ بإرادة بشرية، أو بضرورات سياسية، أو بضرورات اقتصادية. وصحراء مقفرة، مثل ابقيق، حوّلتها الضرورة الاقتصادية إلى مدينة جديدة بعد خمسينيات القرن الماضي، وصنعت حولها مجتمعاً جديداً من حياة بدوية سابقة للنفط وللاسم الذي توسّع كثيراً على نطاقه الجغرافيّ القديم..!
“ابقيق” ـ نفسها ـ هي محلّ ارتباك لغوي صوتي، بين ثبوت “همزة الوصل” وحذفها، شأنها شأن “الأوجام” التي يبدو أنها ماضية في استمرار إبدال “آ” بـ “و”، بسببٍ لا يبدو أنه أكثر من خطأٍ كتابي وقع صدفة؛ فاستمرّ، فانتشر، فاستقرّ، فصار رسمياً، ثم رسخ شعبياً، وها هو يفرض نفسه واقعاً..!
الآن؛ حتى سكان “الآجام” يتسمون بـ “الأوجام”، حتى الجمعية الخيرية فيها تردنا تقاريرها التي ننشبرها باسم “الأوجام”، بالواو، لا حرف المد…! ولا يبدو أن هناك جدوى في استعادة الاسم القديم..!
ولنذهب إلى مثال أكثر أهمية في هذا النوع من التحوّل الصوتي، فـ “الأحساء” اليوم تحمل اسماً مختلفاً عن “حساء” التاريخ. ولكنّ الجدل حول الشكل الصوتي للتسمية؛ ليس إلا ضرباً من العبث الذي لا يُدرك واقع التحوّلات اللغوية والجغرافية عبر التاريخ.
وفي مسائل كثيرة من اللغة؛ لا تُقاس الأمور بمعيار الصواب والخطأ، بل بمعيار الواقع الذي رسخ في الاستعمال، وبالذات في حقل الدلالة، ومعه حقل الأصوات. أي أن الذهنية السائدة الفاعلة في الاستعمال اليومي؛ هي التي أقرّت التحول والتغيير، وأمام هذا الإقرار لا منطق في الرجوع إلى أرشيف التاريخ..!
وهذا يدعونا إلى محاولة إرجاع الإسم الأصلي للبلدة للحفاظ على تاريخها العريق.
بداية التسمية بالواو كانت عند تأسيس المدرسة الابتدائية والتي استخدمت الواو بدل الالف الممدودة وكان بعض الاهالي يسمونها لوجام وعندما اعتمدتها ادارة التعليم انتقل هذا الاعتماد لشرطة القطيف حيث تم اعتماد مسمى عمدة الاوجام