شغف الحج

محمد ابو زيد

 

منذ فجر التاريخ كان للبشرية موعد مع هذا المكان ، وادٍ غير ذي زرع، بين جبالٍ خشنة، ورمال دمثة، وعيونٍ وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ضلف.

منذ تلك اللحظة التاريخية الموغلة في القدم بدأت قوافل الوالهين تفد اليه، يحملها الشوق ويحدوها الرجاء ويسرع بها الوله لتعانق تلك الصخور الصماء وتطوف بقلوبها حول حجارة لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع !!

فغدت برغم كل ذلك قبلة للقلوب ومحجة للارواح تتعاهدها عاماً بعد آخر، تتقاطر إليها كالسيل الذي لا ينقطع، لا يمنعها بعد المسافات ولا يثنيها وعورة الطريق ومخاطره ولا يُحد من شغفها وتعلقها وعثاء السفر وكآبة المنظر ..

انها حقا ظاهرة إنسانية جديرة بالتأمل والدراسة ، حقيقة يقضي منها الانسان عجباً … فما الذي يجعل هذه الأجيال تفد اليه من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة” !!

لا يوجد اي تفسير مادي يفسر هذا العشق والشغف للوصول الى مدينة لا تمتلك شيئا من مقومات الجذب المادي والجمال المغري من أشجار وأنهار وحقول نضرة ومروج خضرة …

نعم ثمة تفسير غيبي انطوى عليه مكنون كلمات تمتم بها الخليل ابراهيم ” عليه السلام” في لحظة إنقطاع صادقة يناجي بها خالقه ” فأجعل افئدة من الناس تهوي اليهم ” فجعلت هذه الأرواح تستسهل العسير وتركب كل صعب وذلول وتبذل كل غالٍ ونفيس يأتونه “رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل في عميق” !!

الحج عبادة يتكاتف في ادائها الجسم والروح والمال، ويشترك في إخراجها الزمان والمكان، وتتكامل فيها حركة أفراد المجتمع المسلم من مختلف أقطار الأرض، لتظهر من ذلك صورة رائعة للوحدة الاسلامية، ولتعارف بني آدم بمختلف ألوانهم وأعراقهم، ويعود من خلالها الجميع إلى مفاهيم الدين الإلهي ” إن اكرمكم عند الله أتقاكم” ..

صورتان من صور هذا الوله بحج بيت الله الحرام، الأولى ذكرتها بعض وسائل الاعلام لاحد الحجاج من الصين قضى سنتين مسافرا في سبيل الوصول إلى مكة, حيث سافر من مدينته القريبة من الحدود مع باكستان إلى العاصمة الصينية مشياً على الأقدام لكي يحصل على جواز السفر وليعود بعدها إلى مدينته ليودع أهله ليسافر بعدها إلى باكستان مشيا, ولكنه وصل متأخرا بيوم واحد مما اضطره إلى البقاء في باكستان إلى العام القادم لكي يضمن وصول مكة المكرمة وأداء فريضة الحج في العام الذي يليه !

اما الصورة الأكثر دهشة فقد قرأتها في كتاب تصويري نشرته سفارة المملكة الهولندية في المملكة يوثق لتاريخ البعثة الهولندية في الجزيرة العربية .

يذكر الكتاب ان عدد الحجاج القادمين من المستعمرات الهولندية الى مكة المكرمة يشكلون اكبر عد من الحجاج القادمين من اي بلد اخر !!

يتحملون مشقة رحلة الحج الطويلة المحفوفة بالمخاطر عبر المحيط الهندي، وكانت السلطات المحلية آنذاك تحتفي بهؤلاء الحجاج لأنهم كانوا يتميزون بلين العريكة وينفقون مبالغ لا بأس بها على زياراتهم للأماكن المقدسة.

كان الحج الى مكة المكرمة في تلك الأيام صعباً شاقاً ومحفوفا بالمخاطر أحياناً، وعلى سبيل المثال كانت رحلة الحج تستغرق من الحاج المسافر من غرب إفريقيا الى مكة المكرمة على الأقدام ثماني سنوات أو أكثر !!

ويوثق الكتاب لرحلة أحد الحجاج من جزر الهند الشرقية الهولندية، وتحتوي يوميات الحاج عبد الله بن عبد القادر منشي، على وصف مثير لرحلة الحج بحرا في القرن التاسع عشر …

وليس ببعيد منا ما كان يتحمله الحجاج القطيفيون من مشاق ومتاعب سمعناها ممن سبقونا من الآباء والأجداد، يتيهون في الصحاري لا يهتدون الى سبيل فيدرك بعضهم الموت ويدفن بإحرام الحج !!

كان ذلك قبل ان يتحول السفر الى هذه البقاع الطاهرة أمراً متيسراً بفضل تطور وسائل النقل وبناء المطارات والطرق السريعة، ومع ذلك ما زال البعض يتخوف من وعثاء السفر وبعد المسافات !!

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×