مع أجواء أعياد الميلاد.. النبي عيسى ومنطق الإعجاز
الشيخ حسن الصفار
يعيش العالم هذه الأيام أعياد ميلاد نبي الله المسيح عيسى بن مريم (ع)، وقد اعتمد يوم الخامس والعشرين من ديسمبر للاحتفاء بميلاده في القرن الرابع الميلادي بعد انتشار المسيحية.
ويؤكد المسيحيون على أنه ليس من اليسير الوصول إلى معرفة دقيقة لتاريخ ميلاد السيد المسيح، بل يتفق المؤرخون على تاريخ تقريبي لتلك الولادة، ويرجحون أنها تمت أواخر سنة 5 ق. م، أو أوائل سنة 4 ق. م، وبعضهم يرى أنها في عام 2 ق. م.
لكن المهم هو حضور هذه الشخصية الإلهية في وجدان وثقافة هذه المجتمعات البشرية الواسعة، فميلاده (ع) أصبح عنوانًا للتاريخ، وحساب توالي السنوات والقرون، عند معظم شعوب العالم.
ورغم أن الاحتفاء برأس السنة الميلادية، وأعياد الميلاد، قد أصبح مناسبة رسمية فلكلورية ترفيهية في مجتمعات العالم المعاصر، قد لا تستحضر فيها شخصية وسيرة المسيح إلا في حدود المراسم والطقوس الكنسية، إلا أنها تظل عنوانًا دينيًا يشهد بعمق تاريخ الانتماء الديني للمجتمعات البشرية.
ونحن كمسلمين يسعدنا تمجيد وتخليد شخصيات الأنبياء والأولياء، فكما نؤمن بنبينا محمد (ص) نؤمن ببقية الأنبياء والرسل.
يقول تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}.
إن إحياء ذكر أي شخصية إلهية هو مكسب للقضية الدينية، وتعزيز للتوجهات الإيمانية والروحية، وترسيخ للقيم الأخلاقية، التي جسدها الأنبياء والأولياء في سيرتهم، وبشرّوا بها في رسالاتهم ودعواتهم.
شخصية المسيح في النصوص الإسلامية
وبخصوص شخصية نبي الله المسيح عيسى (ع)، فإن الحديث عنها له مساحة واسعة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية الشريفة، وفي روايات أئمة أهل البيت (ع).
فقد ورد ذكره في القرآن الكريم (25) مرة في (11) سورة، وتناولت قصته عدد من السور القرآنية.
كما ورد ذكر أمه مريم في القرآن الكريم 34 مرة 23 مرة مقرونًا باسم ابنها (عيسى ابن مريم) و11 مرة لاسمها بمفرده. وخصصت باسمها سورة من القرآن الكريم (سورة مريم).
جوانب الإعجاز في حياة المسيح
وقد تحدث القرآن عن الجوانب الاستثنائية الاعجازية في شخصية النبي عيسى وسيرته.
فقد اختص دون سائر البشر بما فيهم الأنبياء بأن مجيئه للحياة وخروجه منها كان بطريقة اعجازية، حيث ولد من دون أب، وقد شبه الله ذلك بخلق أبي البشر آدم (ع)، يقول تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
وهو محل تعجب واستغراب حتى من قبل أمه مريم كما حكى القرآن الكريم، يقول تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴿١٧﴾ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ﴿١٨﴾ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴿١٩﴾ قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴿٢٠﴾ قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}.
وكما كانت بداية حياته استثنائية فإن نهايتها كذلك، فقد تآمر عتاة اليهود والخونة من المسيحيين على قتل المسيح وصلبه، لكن الله أنقذه منهم، وخلصه من بين أيديهم، ووقع الصلب والقتل على شبيه به، وساعدت على ذلك الظروف المربكة التي جرت بها المحاولة.
ويصرح القرآن الكريم بأن الله قد رفع عيسى إليه، كما تشير الأحاديث النبوية إلى عودته آخر الحياة وائتمامه بالمهدي من ذرية رسول الله (ص).
يقول تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿١٥٧﴾ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
والأمر الاستثنائي الاعجازي الآخر الذي يعرضه القرآن في حياة النبي عيسى كلامه في المهد، يقول تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴿٢٧﴾ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴿٢٨﴾ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴿٢٩﴾ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}.
إن آية تكلّم المسيح في المهد لا وجود لها في الأناجيل المعتمدة لدى الكنيسة ولا يعرفها المسيحيون.
وفي سياق ذكر براهين نبي الله عيسى التي قدمها لقومه على صدق رسالته ونبوته يذكر القرآن الكريم معجزات عظيمة حصلت على يديه، يقول تعالى: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
كيف نفهم المعجزة؟
وتعقيبًا على هذه الصور الاعجازية التي يذكرها القرآن الكريم في حياة نبي الله عيسى (ع) نشير إلى التوضيحات التالية:
أولًا: يتفق المتكلمون في الديانات السماوية إجمالًا على حصول المعجزات على أيدي الأنبياء والرسل، لتكون أدلة وبراهين على صدق دعواهم للنبوة، وصلتهم بالخالق تعالى.
ويعرفون المعجزة أنها: (أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة).
ومعاجز الأنبياء فيها خرق للسير المعتاد لأمور الطبيعة والحياة، لكنها ليست خارقة للعقل، بمعنى أن العقل لا يرى استحالة حصولها، (هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل، أي مضادة لحكم العقل الباتّ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علّة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين… فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها.
وهناك أمور تخالف القواعد العادية، بمعنى أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات والأجهزة العادية، والمجاري الطبيعية، ولكنها ليست أمراً محالاً عقلاً لو كان هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة السائدة من خلال تطور العلم، واكتشاف معادلات وقوانين جديدة في الطبيعة، أو عبر التدخل الغيبي، وهو ما يطلق عليه المعجزة.
فمثلًا إنجاب الكائن الحي لا يحصل إلا عبر التقاء الزوجين، ضمن نظام الانجاب المعروف وما يقوم مقامه كالتلقيح الصناعي، لكن العلم طور الآن أبحاث الاستنساخ لكائن حي من خلايا كائن آخر، وقد تحقق بالفعل كما حصل في ولادة النعجة (دولي) عام 1997م، وما أعقبها من استنساخ حيوانات أخرى كالفئران، ولم يصل العلم بعدُ إلى مرحلة استنساخ البشر.
إن كثيرًا من الإنجازات والتطورات العلمية التي نعيشها اليوم، كانت بحكم المستحيل في زمن ماضٍ، كالانتقال المباشر للصوت والصورة، وهناك الآن بحوث ومحاولات علمية لتحقيق الانتقال الآني الكمي، وهو: أحد أهم مجالات بحوث الفيزياء الكمية، التي تستقطب أبرز العلماء، وأكثر مراكز البحوث تقدما، ليس فقط لتحقيق حلم بشري قديم بالانتقال السريع من مكان إلى آخر، الذي كثيرا ما جسدته قصص وأفلام الخيال العلمي، بل كذلك لإحداث اختراق جديد يمكن العصر الرقمي من الانتقال إلى طور جديد: هو الانتقال الآني الكمي.
وقد تحدث القرآن الكريم عن حصول ذلك عن طريق المعجزة في عهد النبي سليمان (ع)، حيث أُحضر له عرش بلقيس، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، بطرفة عين.
وقد سجل القرآن الكريم ذلك المشهد في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي}.
وكذلك الحال في معالجة الأمراض الصعبة التي تحدث القرآن عن حصولها كمعجزة على يد نبي الله عيسى، إلا أننا نجد الآن أن العلم قد حقق أشياءً في عالم الطب، وزراعة الأعضاء مما كان مستحيلًا في الزمن الماضي.
ونعلم كيف أن بعض الأمور كانت خارقة للعادة في القرون الماضية، لكن الإنسان اكتشف معادلتها فأصبحت ممكنة في هذا العصر.
المعجزة ونظام الكون
ثانياً: إننا نعتقد بأن أمور الكون والحياة تخضع لنظام إلهي، فليس هناك عبث ولا فوضى ولا مزاجية في تسيير أمور الطبيعة والحياة، والمعاجز التي تحصل على أيدي الأنبياء والكرامات التي تجري على أيدي الأولياء، ليست حالة دائمة مستمرة في حياتهم، بحيث يكون النبي مصدرًا لها في كل لحظة وساعة ويوم، ويكون خرق العادة شغله الشاغل، وإنما يقوم بذلك الأنبياء في فترات خاصة ولغايات تقتضيها الإرادة الربانية، وهي خرق للسنن العادية التي نعرفها، لكنها تندرج ضمن أنظمة أخرى للحياة لا نعرفها، وما عسانا نعرف من اسرار الكون.
إن فيروسًا ضئيلًا كفيروس كوفيد 19 لا يرى بالعين المجردة أربك العالم، وأصبح في معركة كرّ وفرّ معه.
لقد وجد العلماء من خلال أبحاثهم أن الكون يتألَّف من ثلاثة أشياء رئيسة: الطاقة المظلمة وتشكِّل الغالبية العظمى من هذا الكون، حيث تبلغ نسبتها %68.3، والمادة المظلمة وتشكِّل %26.8، والمادة العادية التي تتكوَّن منها المجرَّات والنجوم وجميع ما نراه بما فيها نحن البشر لا تشكِّل أكثر من %4.9.
وعلم الإنسان ومعرفته تتحرك في نطاق هذه النسبة فقط، مما يعني أن نسبة ما يجله الإنسان من واقع الكون، هو في نطاق 95%.
روايات المعاجز
ثالثاً: إنّ ذكر القرآن لمعجزات الأنبياء، فتح الباب أمام كثير من ادعاءات حدوث المعاجز والكرامات للأنبياء والأولياء، وإذا كنا نؤمن بمبدأ إمكان حصول المعاجز والكرامات، فإننا لا يصح أن نقبل أي ادعاء، إنّ ما يذكره القرآن الكريم من معجزات بنص صريح نؤمن به، وقد يذكر القرآن حدوث أمر بعبارة تكون دلالتها غير صريحة، وهنا قد يختلف العلماء في فهمها، فمن اطمأن إلى تفسير للنص القرآني يدلّ على وقوع المعجزة ولو عبر الروايات الواردة، فهو يتعبّد بذلك، ومن لم يحصل له الاطمئنان يكون معذورًا فيما يراه.
وكذلك الحال في الأحاديث والروايات الواردة حول معاجز الأنبياء والأئمة وكراماتهم، بل ما ينقل من المعاجز والكرامات لبعض الصحابة والعلماء، وهو كثير في التراث الإسلامي.
إن ذلك يخضع للبحث والتدقيق فلا يصح التسرع في الرفض، كما ليس صحيحًا قبول كل ما ورد، فهناك في التراث غلو ووضع كثير.
وإذا لم يتقبل الإنسان شيئًا من روايات المعاجز لعدم اطمئنانه بصحة الرواية والنقل ضمن الضوابط العلمية، فلا يخل ذلك بدينه.
إن بعض المتدينين لا يقبلون التحفظ والردّ لبعض روايات المعاجز، بحجة أن ذلك تشكيكًا في قدرة الله، أو استهانة بمقام النبي والإمام، وذلك خطأ وخلط بين الإمكان والوقوع، وبين الثبوت والإثبات. فإمكان المعجزة والكرامة شيء، ووقوع هذه الحادثة المدعاة شيء آخر. فلا يصح تسطيح وعي الناس وتضليلهم.