الدرازي آخر خبازي سنابس.. يحنّ إلى زمن «أبو شاكر» و«حرملة» اتقن العجن والتحوير وشارك أولاد العبندي لينتقل إلى «السكة الحديد».. و«النور» أعاده إلى «عشقه» القديم
سنابس: ليلى العوامي
لا صوت يعلو على صوت «طرقعة المحور»، أنه يطرب أذني أحمد حسن عبدالله الدرازي، أكثر من أي صوت آخر..
يجد هذا السنابسي السبعيني، متعة لا تُقاوم حين يُحور العجين. يحن إلى أيام معلمه جاسم الحبيب (أبو شاكر)، و«حرملة»، وعمال «أرامكو»، البنائين، البحارة والأساتذة، يُصبحوّن عليه، يشترون منه 12 قرصاً ساخناً للتو خرجت من «الداغ»، مقابل ريال واحد.
رغم أنه لم يعد يجاور «التنور» منذ أربعة عقود، لكن «التنور» أبى أن يتركه. يراوده حنين إليه بين حين وحين، حتى أن نادي «الجراجير»؛ النور، بنى له «تنوراً» خاصاً في مقره، ليمارس فيه «عشقه» القديم المتجدد، والذي لا يجد فكاكاً منه.
لم يرث الدرازي «الخبازة» من والده، فلقد كان الأب بحاراً. التحق في ابتدائية سنابس، الواقعة شمال البلدة، كان مديرها حينها محمد الحمد، من أهالي دارين، يصفه بالقول «كان رجلاً طيباً ومديراً متفانياً»، مضيفاً «درّست في المدرسة حتى الصف الرابع الابتدائي، وبسب قسوة معلميها، وهم من العرب؛ تركت الدراسة».
بداية علاقته بـ«الداغ»؛ كانت قبل بلوغه عامه الـ13 (من مواليد عام 1373هـ). أحب المهنة منذ ذلك الحين.
أيام الصبا.
مع المعلم أبو شاكر الحبيب
لأشهر؛ تردد الدرازي على محل أبي شاكر، يجالسه، ينظر إليه كيف يخبز، وكيف يتعامل مع العجين والمحور. المتعة التي كان يشعر بها الطفل نحو معلمه، وهو ينظر إلى التنور المُشتعل بنار الحطب، فيما الحبيب يخبز بحب، والناس تأخذ خبزها وتذهب؛ جعلته مُداوماً على المحل، يطرب لصوت المحور، وضربات اليد على طاولة الخباز.
يقول «كنت لأيام أقف أمام دكان الحاج أبو شاكر، الواقع جنوب البلدة؛ اختلس النظر إليه وهو يخبز منذ الفجر وحتى انتهاء اليوم، فقال لي يوماً «تعال وتعلم يا ولديّ».. ربما وجد فيّ حب العمل».
لم يتعلم الدرازي، من أبي شاكر، العجن والخبز فقط، بل الأهم من ذلك؛ أن يقوم بعمله هذا وهو يشعر بحب للخبز والعجين الذي سيطعم به أهالي سنابس وما حولها. لم يكونا وحيدان، كان هناك أكثر من 10 خبازين آخرين في هذه البلدة الغافية على السيف.. اليوم لم يبق من يمارسها سواه، وإن بين فترة وأخرى، لا ينافسه سوى الهنود، الذين تعلموا «الخبازة»، واحتكروها. لعل الدرازي آخر خباز باق في القطيف.
تنور الدرازي في مقر نادي النور بسنابس.
ضربات المحور
يقول «احتواني أبو شاكر، الذي كان يفتح دكانه قبل الأذان»، مضيفاً «كان للخبازين طريقتهم لإخبار الناس عن بدء فتح الدكان، وهي ضربة بالمحور واليد على الطاولة، وسيسمع من في الجوار الصوت، فغالبية البيوت كانت عشش، ولا توجد مكيفات تحول دون سماع الصوت، فيتوافدون عليه من جميع الأحياء”.
يستدرك «كان عمال «أرامكو» يأتون قبل بزوغ الفجر بساعة ونصف الساعة، يأخذوا الخبز، ولا ينتظرون طرطقة المحور على الطاولة، أو ضربات الأصابع، يشترون خبزهم وهم ذاهبون لأعمالهم».
أدمنت أذني الدرازي ضربات محور الحاج الحبيب، وحين طلب منه مساعدته؛ فرح كثيراً، يقول «لم أتوقع أن يلتفت لرغبتي حينها، قال لي: قم صولِج العجين.. أي أصنع من العجين دوائر. وحينما ختمت الصَّولجة؛ طلب مني التحوير، وكان يعطيني العجينة التي لا يريدها؛ إن ضبطت معي استخدمها، وإن لم تضبط أكون قد تدربت عليها. وحينما رأى دقتي في العمل؛ طلب مني أن أتمرن على عمل العجين. ولكن العجن يحتاج أن أذهب معه لبيته قبل أذان الفجر».
تعلم الدرازي العجن على يدي الحبيب، «كان عملاً ممتعاً للغاية، وكنت أذهب إلى منزله كي نبدأ العجن، ونحمله إلى الدكان، وكان منزله قريباً من الدكان».
يخرج الدرازي مع أستاذه أبو شاكر، وعلى رأسيهما صحن العجين، في طريقهما نحو الدكان، يمشيان بتؤدة، خطواتهما مليئة بالسعادة.
مع الأخوة العبندي
يستمر الدرازي في سرد قصته مع الحبيب «ختمت العجان مستخدماً الماء، الطحين، الشيرة، الملح، والكربونة (بيكربونات الصوديوم). وبعدها طلب مني أبو شاكر الذهاب لمنزله بنفسي كل يوم، لأعجن متى ما احتاج إلى عجين إضافي، وأجهز العجين، وأحمله إلى الدكان».
لم يتوقف عن تعليمه مهارات الخبز من عجين، تحوير وصولجة؛ وحين قطع شوطاً طويلاً؛ طلب منه أن يمسك التنور. يتذكر «بداية؛ قلت في نفسي التنور: إنه عمل شاق في ظل حرارة النار.. ولكن رغبتي وحبي للمهنة جعلني أتحمل كل ذلك. مسكت التنور، وصرت أخبز مع أبو شاكر، حتى ختمت العمل كله».
اتقن الدرازي لزق العجينة على الطابة، سلمه أبو شاكر التنور؛ وكان يجلس جانباً ليراقبه، حتى ختم العمل، وبعدها فتح له دكاناً بجانبه، يتذكر أنه كان من «الشينكو». عمل فيه مدة، ثم عمل خبازاً في أربعة محال، حتى جاء صاحب الدكان الأخير، وطلب المحل، فسلمه له، وذهب شريكاً مع الأخوة: أحمد، عبدالله وعلي أبناء عيسى العبندي».
في رمضان بين حرارة الصيف.. و«التنور»
لكن للعمل في «الخبازة» وجهاً آخر، وجه «صعب»، يتمثل في حرارة العمل في شهر رمضان، خصوصاً في فصل الصيف شديد الحرارة والرطوبة، وفي محل من «الشينكو»، يقول «العمل في رمضان مُتعب للغاية، فقد كنت أفتح الدكان من الفجر وحتى غروب الشمس».
ولا ينسى واقعة تعرض لها في أحد أيام الصيف، «كنت صائماً، شعرت بتعب شديد. يومها جاءني المرحوم عبدالله حبيل (أبو علي)، قلت له: أخوك بروح أصلي وأرجع، خليك في الدكان. رحت المسجد وكان بارداً. وفيما أنا أصلي غفوت، ولم أجلس إلا المغرب. رجعت المحل وجدته غاضباً. ضحكت وقلت له: أرتاح، وأنا سأكمل عنك».
يتذكر أيضاً يوم زواجه، وكان جمعة، وفجر السبت فتح دكانه. وبعد أربع سنوات تقريباً من زواجه (كان عمره حوالى 29 عاماً)؛ ترك المهنة، ليعمل موظفاً في سكة الحديد.
يزيح غبار السنين عن ذاكرته، يتذكر خبازي سنابس قديماً، منهم: علي العبيدي (أبو حميد)، محمد حمزة خزعل (أبو علي)، الحاج عبدالله المطوع، رحمهم الله. ومنهم أيضاً: علي عيسى العبندي، وحميد العبيدي أطال الله في أعمارهما.
حمار «حرملة»
مدينة القطيف كانت المورد الأساس لمستلزمات الخبز، وعلى «گاري» يجره حمار، حملوا بضاعتهم إلى سنابس، يقول «كنت أذهب للقطيف لأشتريها من تجارها. أشتري منهم نوعين من الطحين: ألماني أبو وردتين أو وردة، وآخر أميركي عليه علامة سنبلة. كما نشتري السكر، الزيت والملح، ونقوم بنقله بواسطة حمار يملكه شخص يدعى «حرملة»، الذي كان يعبر به «المقطع» وصولاً إلى تاروت، ومنها إلى سنابس.
لم تسعف ذاكرة الدرازي لاستحضار اسم «حرملة»، وهو غالباً «بداّعة»، اطلقت عليه لأدائه دور حرملة بن كاهل العبدي، قاتل عبدالله الرضيع، طفل الإمام الحسين عليه السلام، خلال «التصاوير» التي كانت تؤدى في المنطقة خلال إحياء مراسم عاشوراء. فلقد اطلق أهالي بلدات القطيف أسماء شخصيات الواقعة على من أدوها، حتى أصبح بعضها أسماءً رسمية لعوائل.
تنور من الطين الخويلدي
أما التنور؛ فصنعه سعيد كاظم البيك، من الطين الخويلدي. هنا يتذكر «كان معلمي أبو شاكر يخبز الخبز على الحطب، لكنني استخدمت الگاز (الكيروسين)».
استخدم الدرازي التنور الرفيع، فهو لا يقوى على الأرضي الذي كان يستخدمه بعض الخبازين، خصوصاً المرحوم عبدالوصي من تاروت، الحاج عبدالله المطوع، الحاج جعفر الخباز، وغيرهم ممن اعتذر عن تذكر أسماءهم.
كان يقوم بنفسه بعمل العجين، مستخدماً كيسين من الطحين (زنة الكيس 45 كيلوغراماً)، واحد يعجنه في الواحدة والنصف فجراً، والآخر عند أذان الفجر. وفي الصيف كان يقلل الخميرة، ويغطي العجين بكيس الطحين، وفي الشتاء يكثر منها، ويغطيه بكيس الطحين، وفوقه خيشة.
خلف الدرازي أربعة أبناء، هم: حسين، علي، جعفر ومرتضى، إضافة إلى أربع بنات، لم يرث أحداً منهم «الخبازة».
المحور الذي كان الدرازي يحور به العجين.
الملقط الذي يلتقط به الخبز من «الداغ». شاهد الفيديو