“المليحة في الخمار الأسود” تنعى “المؤذن” صباح الدين أبو قوس صباح فخري يختتم النسخة الوحيدة من الطرب الكلاسيكي الرفيع
القطيف: صُبرة
بين عامي 1933 و 2021 خمسة عقود، إلا عامان. لكنّها عقود طرِبت كثيراً من المحيط إلى الخليج؛ على صوت وقدود “أبو قوس” الذي لم يعرفه الناس إلا باسم “صباح فخري”. صباح فخري الذي ودّعنا، اليوم، تاركاً إرثاً هائلاً من الموسيقى العربية الأصيلة، ومدرسة تكاد لا تتكرر في فنٍّ ليس له نسخة أخرى في عالمنا العربي الكبير.
في عام 1968 ضرب رقماً قياسياً في الأداء، وغنى 10 ساعات متواصلة بلا توقف. حدث ذلك في مدينة كاراكاس الفنزولية.
وفي مصر؛ عام 1997؛ سُجّلت باسمه جمعية فنية تضم محبيه ومريديه، لتكون أول جمعية رسمية من نوعها تقام لفنان غير مصري.
ولكنّ مثل هذه العلامات الاستثنائية؛ ليست الأهم في سيرة المؤذن الذي استحال فنّان طربٍ من الطراز الكلاسيكي الرفيع. العلامات سجّلت نفسها في ذائقة العرب؛ منذ أن جرّ صوته بـ “قل للمليحة”، حاضناً “قدّك الميّاس”، في بُهرج “القدود الحلبية” الخلّاب.
أبو قوس
صباح الدين أبو قوس.. الذي منحه راعي موهبته فخري البارودي اسمه ـ الفني ـ وعاش ومات عليه. وفي مدينة حلب السورية، ونشأ في واحدة من أهم مراكز الموسيقى الشرقية العربية. وفي مسقط رأسه؛ ظهرت موهبته في العقد الأول من عمره، ودرس الغناء والموسيقى مع دراسته العامة في تلك السن المبكرة في معهد حلب للموسيقى وبعد ذلك في معهد دمشق.
وتخرّج من المعهد الموسيقي الشرقي عام النكبة 1948، ودرس الموشّحات والإيقاعات ورقص السماح والقصائد والأدوار والعزف على العود. وفي دراسته تتلمذ على أعلام الموسيقى وكبار الموسيقيين، أمثال الشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش ومجدي العقيلي ونديم وإبراهيم الدرويش ومحمد رجب وعزيز غنّام.
وفي شبابه عمل موظفاً بأوقاف حلب ومؤذناً في جامع الروضة. لكنّ سيرته تطورت بتسارع؛ حتى أصبح واحداً من أعلام الغناء العرب، وفي السجلات العالمية يوضع اسمه ضمن أهم مطربي الشرق.
حفظ الموروث
ومن هذه المسيرة نتجت أعمال فنية قدّمها على المسرح، كما شارك ببعضها في السينما والتلفزيون والإذاعة، واقترن اسمه بأعلام في الموسيقى، مثل عمله “الوادي الكبير” مع المطربة وردة الجزائرية، و “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري، وقد سجّل ما يقرب من 160 لحناً ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشّح وموال حفاظاً على التراث الموسيقي العربي التي تتفرد وتشتهر بها حلب.
كان مطرباً؛ لكنه آتٍ من بيئة تديُّن؛ وسجل “أسماء الله الحسنى” مع عبد الرحمن آل رشي، ومنى واصف وزيناتي قدسية.
ومن جوّه الطربي؛ لحن المسلسل الإذاعي “زرياب”، وغنّى فيه قصائد عربية، للمتنبي وأبي فراس الحمَداني ومسكين الدارمي، وعلي بن الفارض والروّاس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب.
ولم يعش صباح فخري في التاريخ، بل لحّن وغنى لشعراء معاصرين أمثال فؤاد اليازجي وأنطوان شعراوي و.جلال الدهان وعبد العزيز محي الدين الخوجه وعبد الباسط الصوفي وعبد الرحيم محمود وفيض الله الغادري وعبد الكريم الحيدري.
أما حضوره الجماهيري؛ فلديه سجل عربي وعالمي، من حلب، إلى تدمر، إلى جرش، إلى فرنسا والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية.
وإزاء هذا الحضور؛ كانت أسطواناته تحفاً يعتزُّ باقتنائها أنصار الطرب الكلاسيكي، والشعر العربي الأصيل.
مناصب.. وتكريمات
وعلى الرغم من انشغالاته الفنية الكثيفة؛ شغل مناصب، بعضها لا تناسب “الفنان” الأصيل، وبعضها في صلب اشتغاله، مثل: نقابة الفنانين السوريين لأكثر من مرّة، ونيابة رئيس اتحاد الفنانين العرب، وعضوية مجلس الشعب السوري، وعضويات لجان فنية ومهرجانات كُبرى.
أما سجلّ شهادات التكريم والتقدير؛ فهي مزدحمة بأسماء المهرجات والعواصم العالمية، بينها شهادة تقدير من محافظ مدينة لاس فيغاس في ولاية نيفادا مع مفتاح المدينة تقديراً لفنه وجهوده المبذولة لإغناء الحركة الفنية التراثية العربية. وكذلك مفتاح مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان ومفتاح مدينة ميامي في ولاية فلوريدا مع شهادة تقديرية.
وأقامت له جامعة U.C.L.A حفل تكريم في قاعة رويس وقدمت له شهادات التقدير لأنه حمل ولا زال لواء إحياء التراث الغنائي العربي الأصيل. كما غنى في قاعة نوبل للسلام في السويد، وفي قاعة بيتهوفن في بون ألمانيا.
وفي فرنسا غنى في قاعة قصر المؤتمرات بباريس، كما أقام حفلات على مسرح العالم العربي في باريس وعلى مسرح الأماندييه في نانتير.
وأنجز جولة فنية ثقافية في بريطانيا، وقدّم حفلات غنائية ومحاضرات عن الموسيقى والآلات العربية في كل من (لندن – يورك – كاردف – بيرمنجهام – شيستر فيلد – مانشستر – ديربي شاير – كوفينتوري).
أقام له الرئيس الحبيب بورقيبة حفل تكريم وقلده وسام تونس الثقافي عام 1975.
قدّم له السلطان قابوس وسام التكريم في 2000/2/5 تقديراً لعطاءاته وإسهاماته الفنية خلال نصف قرن من الزمن وجهوده وفضله في المحافظة على التراث الغنائي العربي.
نال الميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية بدمشق عام 1978.
نال جائزة الغناء العربي من دولة الإمارات العربية المتحدة باعتباره أحد أهم الروّاد الذين لا زالوا يعطون ويغنّون التراث الغنائي العربي الأصيل.
كرّمته وزارة السياحة المصرية بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية تقديراً لعطائه الفني الذي أثري ساحة الغناء العربي الأصيل الذي سيظل زاداً لإسعاد الأجيال القادمة من عشاق الفن الراقي.
كرّمه مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في مصر وقدّمت له كتب الشكر لمشاركته ومساهمته لعدّة سنوات في المهرجانات التي أقيمت على مسرح دار الأوبرا الكبير ومسرح الجمهورية في القاهرة ومسرح قصر المؤتمرات في الإسكندرية.