أبو جعفر.. عامان بلا منبر

للعام الثاني؛ يغيب صوت “أبي جعفر” عن المنابر. الرجل الذي ألف “الأعواد” مُذ كان ليّن العود، واحترفه لأكثر من سبعين عاماً؛ وحافظ على رسالة الخير والإصلاح، خطيباً ومؤلفاً ومصنّفاً، وإنساناً على درجة عاليةٍ من الخُلق والتواضع، والنأي بنفسه عن عمّا يتقاتل حوله كثيرون.

رجلٌ، في مثل علمه وفضله، يتواضعُ مع أبسط جلسائه ومريديه. وفي مجلسه الذي يحضره علماء وأدباء ومثقفون وذوو وجاهة ومكانةٍ؛ يُظهر اهتمامه حتى بفلاحٍ حتى يجد نفسه وكأنه أحد الوجهاء الذين يرودون المجلس. وحين يغيب عنه جليس من الجلساء؛ فإنه يبذل جهده لتفقده والسؤال عنه حتى يطمئنّ إلى حاله.

وقد يعاتبه عتاب الأب، ويلين في عتابه لين الصديق الودود. رجلٌ لا تحول مهابته دون أن تكون معه على طبيعتك، لا تصنع، لا تكلف، لا مواربة. أنت في مجلس الشيخ.. بل في بيتك. وحين تُغادر؛ يشيّعك بمودة وحب. وهذا الخلق الرفيع ـ النادر ـ لا يختصّ بأحد دون آخر..

رجل؛ اتفقت معه أم اختلفتَ، فإنك لن تنجح في إنكار خلقه العالي..

صُبرة

الشيخ سعيد أبو المكارم، العلامة المصلح

محمد شاخور

تتصفح التاريخ فتجدهم قلة أولئك الذين تمكنوا أن يكونوا مصلحين، إذ ليس من السهل أن يكون المرء مصلحًا، فذاك أمر يتطلب استعدادات روحية عالية، وقدرات ذهنية متوقدة، وقبل هذين فالأمر يحتاج إلى توفيق إلهي. وأبو المكارم ممن ملك تلك الروح وهذه الذهنية، والتجأ إلى الله وتعلق به فكان الله معه.

وهو القائل:

إذا رضي الله عني فلا

أبالي بكل بني آدم

ولا أختشي أي شر يكون

وان أطبق الشر بالعالم

ولقد تبين لآية الله الشيخ سلمان الخاقاني ذكاء وفطنة أبو المكارم في بداية شبابه، فقال واصفًا له: الشيخ سعيد شاب متحمس، قد ملئ حيوية ونشاطًا للبحث والتنقيب، بالإضافة إلى مايملكه من ذكاء وفطنة، وما أُسبغ عليه من براعة في الخطابة والبيان.

وأكد هذا المعنى الشيخ عبدالعظيم المرهون في هذا البيت:

بزّ أقرانه ذكاء وعلمًا

وتخطى الجميع في مستواه

وأبو المكارم أحد النوادر في مجتمعنا الذي استطاع من خلال مشروعه الإصلاحي الإنساني أن يستوعب مجتمعه وعمل جاهدًا في سبيل ذلك من سن مبكرة من عمره، وأن يتجاوزه ليصل لذوي الأفهام والإصلاح في كل مكان.

وهذا هو شأن المصلحين، أن يتجاوزوا الحدود المكانية، ويُبحروا في الأعماق الإنسانية.

وهو الذي استطاع في سن مبكرة أيضًا أن يكون ثقة العلماء والفقهاء وكذا المراجع الكبار.

فكان قريبًا ومقربًا من أفاضل وأعالي علماء المنطقة وفي طليعتهم الشيخ علي الجشي والشيخ حسين القديحي والشيخ محمد صالح المبارك.

وتراه بين حنايا الإمام المحسن الحكيم ومشروع الحسين كاشف الغطاء وفكر الشهيد الصدر ووحدة وتنظيم شرف الدين وفقاهة الخاقاني وبراعة التجديد لزين الدين وغيرهم. يتفاعل معهم ويتفاعلون معه في نهج الإصلاح والتكامل المعرفي.

ولهم في حقه شهادات تبين سمو مقامه ومزايا منهجه.

وكذا مع علماء الأزهر والزيتونة ومفكري العالم الإسلامي وأدباءه، وهو إذا تفاعل في واحدة من هذه المساحات إنما يتفاعل معها ويستثمرها في سبيل الوحدة والإصلاح.

فتراه بين منبر جماهيري يأخذ بعقول مستمعيه إلى آفاق دينية وفلسفة إنسانية وولاء واعي.

لا يقبل إلا بالحالة التكاملية والمعرفية للمتلقي وهو يحترم عقول تلك الجماهير ويجهد في أن يضيف إليهم الجديد النافع.

إلى كتابات ولقاءات تؤكد جميعها مشروعه الإصلاحي في كل المساحات المتاحة أمامه وبكل ما أوتي من قوة، حتى قال عنه العلامة المفكر الشيخ أحمد مغنية: “الشيخ سعيد كما عرفته وخبرته موسوعة إسلامية يعتز بها الله ورسوله” ويقول “هو أرقام، هو ثقة، هو كنز، هو فوق ذلك” كما يؤكد على تلك الروح العالية التي أشرت إليها ويقول “إنه عنصر من عناصر الخير ولسان من ألسنة المؤمنين ونفحة تعرفك بنفحات أهل الجنة وسيرة تذكرك بسير الأبرار من رجالنا الأقدمين المرموقين وجندي متواضع من جنود الله” وهذه مقتطفات مما كتبه الشيخ مغنية في حق أبي المكارم.

مع الخطيب الملا أحمد خميس (المصدر: منتدى الساحل الشرقي)

وهكذا ترى ذلك المجلس المعرفي الثقافي والمفتوح بشكل يومي، كيف كان محط العلماء والمثقفين وكيف كان مستوعِبًا -بالرغم من ضيق جدرانه- لجميع المسلمين شيعةً وسنة وكذا للمسيحيين، واتسع أيضا لجميع التيارات الفكرية في المنطقة.

وهو الذي أجهد نفسه وقرأ الآخر كي يستوعبه ويناقشه بدلًا من أن يستبعده أو أن يقصيه.

فكان أبًا ومرشدًا لرواده، وكان رحب الصدر في النقاش العلمي مع المخالف قبل المؤالف.

وهذا الأستاذ الأردني صالح ضيف الله ماضي الجرايشة يخبرنا عن ذلك المجلس وما رأى:

سأذكر بالفخار وبالسرور

زيارتنا إلى الشيخ الوقور

سمعت حديثه فعرفت أني

بحضرة عالم لسن قدير

وأكبرت التواضع في مهيبٍ

له إشراقة البدر المنير

وأظن أن بيت الأديب عبدالله المحسن يصور ذلك المجلس بأفضل توصيف حين قال:

لا تقولوا مجلس بل حوزة

هي للأفكار صقل ونما

وأبو المكارم تتجلى في مسيرته الإصلاحية هذه القاعدة وهي أنه آمن بالإنسان وبفطرته السليمة وقدراته العقلية فراح يُجهد نفسه لخطاب الروح من خلال روحه العالية، وحاكى العقول وناقشها من خلال قدراته الذهنية وجهوده الفكرية وانفتاحه في قراءته للجميع قراءة وعي وإنصاف.

وما أحوجنا اليوم لشخصية إصلاحية كشخصية الشيخ سعيد أبو المكارم، لتستوعب الداخل بكل توجهاته فضلًا عن استيعاب الآخر.

 

مصدر الصورتين موقع نادي السلام

مصدر الصورة الأخيرة: حساب العدناني في إنستغرام

تعليق واحد

  1. حفظ الله الشيخ أبوالمكارم

    لأسلوبه المنبري طعم آخر يختلف عن أساليب الخطباء الآخرين من حيث المادة العلمية والأدبية التي يطرحها وهذا ما جذبني شخصياً لتردد على الحسينيات التي يقرأ فيها

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×