«الخفاق الأخضر».. علم لا يُنكس.. لا يُلف على الأكفان.. لا يلمس الماء توارثته الدول السعودية 286 عاماً.. وتنقل من كف ابن طوق إلى أسرة ابن مطرف

القطيف: أمل سعيد

في الثالث والعشرين من يناير عام 2015؛ أعلنت الكويت تنكيس علمها، حداداً على الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، الذي توفي فجر ذلك اليوم.. هكذا فعلت عشرات الدول الشقيقة والصديقة حول العالم، تقديراً لرجل دولة، ترك بصمته على تاريخ المنطقة والعالم.

اللافت أن المملكة؛ البلد الذي كان يتولى مقاليد حكمه، لم تنكس علمها.. لاحقاً؛ حين تم تشييع جثمانه إلى مقبرة العود في العاصمة؛ الرياض، لم يلف كفنه بالعلم، كما تفعل كل دول العالم تقريباً في تشييع زعمائها وقادتها وشهدائها وشخصياتها الوطنية.

لا غرابة في ذلك؛ فراية البلاد تحمل عبارة لا يمكن تنكيسها، أو لفت جثامين الموتى بها، أو حتى أن تلامس الأرض والماء؛ «لا إله إلا الله.. محمد رسول الله».

لم يرفرف «الخفاق أخضر» لأول مرة صبيحة الثالث والعشرين من سبتمبر عام1933، حين أعلن سلطان نجد وملحقاتها عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، توحيد المناطق التي يحكمها وقيام دولته؛ «المملكة العربية السعودية». بل قبل ذلك بكثير، منذ 1744ميلادية، في الدولة السعودية الأولى.

ما قصة «الخفاق أخضر»؟

«صُبرة» تصطحب القراء في جولة توثيقية عبر التاريخ، حول هذه الراية الخضراء:

في يومنا الوطني

هذي المفاتنُ في عينيكَ تأتلقُ

وفي رحابك هذا السحر. والألق

وفي ثراك من التاريخ أدسمة

تلملم الشمس أعراساً. وتنطلق

فأنت يا وطني ماض يعانق

زهو البطولات. والإشراق. والعبق

وأنت في حاضر تكسوه أجنحة

علوّها من بياض الصبح ينبثق

يغازل الفجر في عينيك أغنية

ويزدهي في سماك الليل والشفق

ما مسك الضر يوماً منذ أن هبطت

فيك الرسالات أو أسرى بك الأرق

ولا سرى فيك طيف شارد أبداً

من الضلالات في أعطافه نزق

دعني أقبل ظلاً فيك أنبتني

وفي ترابك بالخدين ألتصق

واضمم جناحيّ في دفء الحنان ضحى

وحين يهطل فيك الطل والغسق

هكذا شذا الشاعر الجازاني والفرساني إبراهيم عبدالله المفتاح، الذي رحل عن دنيانا قبل حوالى 80 عاماً، في وصف هذا الوطن.

بعد ثمانية عقود من رحيل المفتاح؛ سيحتفي شعبه من جزيرته؛ فرسان، في أقصى الجنوب الغربي، إلى الخفجي في الشمال الشرقي، ومن سواحل تبوك في الشمال الغربي، إلى تخوم الربع الخالي في أقصى الجنوب الشرقي، بيومهم الوطني، سيرفعون العلم الأخضر، المُزين بعبارة التوحيد، يلوحون به فرحاً.

في هذا اليوم؛ يشكل العلم (البيرق، الراية، اللواء)، أهم عنصر في مظاهر الاحتفال. العلم الذي رافق نشوء الكيان الوليد إلى أن أصبح دولة بحجم وطن.

علمُ متوارث منذ ثلاثة قرون

الكاتب الراحل عبدالرحمن الرويشد، في كتابه «تاريخ الراية السعودية: أعلام وأوسمة وشارات وطنية»، يؤكد أن «علم المملكة اليوم هو نفس الراية، البيرق، الذي كان يحمله جند الدولتين السعودية الأولى والثانية، منذ نشأتها».

يؤيده وكيل المراسم الملكية السابق الدكتور عبدالعزيز الحمودي، الذي قال في لقاء تلفزيوني «إن العلم هو نفسه من بداية الدولة السعودية لم يتغير»، مضيفاً «كان أول ظهور للعلم عام 1157هـ، تتوسطه كلمة التوحيد وتحتها سيف، مقبضه إلى السارية. كما كُتب عليه جملة «نصر من الله وفتح قريب». هذا كان في الدولة السعودية الأولى، التي انتهت في 1233هـ».

جاء الإمام تركي بن عبدالله، المؤسس الثاني، من عام 1242 إلى 1280هـ، وكان يضع العلم أمام القصر قبل 3 أيام، إذا أراد الغزو، إشارة إلى حال الطوارئ. ولكن أزيلت حينها من العلم آية «نصر من الله وفتح قريب».

في السياق نفسه؛ قال الباحث في التاريخ السعودي راشد بن عساكر، في حديثه عن جملة «نصر من الله وفتح قريب«، إن «هذه الكتابة التاريخية التي ذكرها الريحاني في تاريخه لم يذكر تاريخاً معيناً لها، إلا أنه في المجمل يُحتمل أنها قبل دخول الحجاز عام 1925».

عن العلم الأول؛ قال عساكر « يتفق جميع المؤرخين على أن الشكل الأول للعلم هو قماش أخضر مكتوب عليه بخطوط بيضاء عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، هذا في الدولتين الأولى والثانية، وحتى بداية الثالثة. وعندما دخل الملك عبدالعزيز الحجاز عام 1925؛ بدأ في تغيير تصميم العلم، حيث أصبح قطعة قماشية من حرير، تعلوها كلمة التوحيد، وبينها وبين السارية (حامل العلم) قطعة من القماش الأبيض لتقوية العلم، ووضع شعار النخلة والسيفين المتقاطعين. كما أشار إلى ذلك مؤرخون، منهم الريحاني وفؤاد حمزة في كتابه «البلاد السعودية».

مر علم المملكة في مراحل عدة، شهد تغييرات طفيفة في شكله، حتى وصل إلى شكله الحالي.

حاملو البيرق

بالعودة إلى عبدالرحمن الرويشد؛ الذي يقول عن العلم «ليس مجرد قطعة قماش تعلق في أعلى سارية من الخشب، بل هو رمز عظيم للأمة والعقيدة والوطن».

ولما لهذا العلم من مكانة كبيرة في نفوس شعب المملكة؛ كان حمله وسام شرف لحامله. ومنذ عهد الدولة السعودية الأولى حاز هذا الشرف، وفق الترتيب الزمني كل من:

  • إبراهيم بن طوق.
  • عبدالله أبو نهية.
  • الحميدي بن سلمة.
  • صالح بن هديان.
  • إبراهيم الظفيري.
  • عبداللطيف بن حسين المعشوق.
  • منصور بن عبداللطيف المعشوق.
  • عبدالرحمن بن مطرف الذي حمل الراية حتى توحيد المملكة العربية السعودية، ثم حملها بعده ابنه ثم حفيده ثم ابن حفيده.
  • منصور بن عبدالرحمن بن مطرف.
  • مطرف بن منصور بن مطرف.
  • عبدالرحمن بن مطرف بن مطرف.

وماتزال الراية في حوزة آل مطرف، من أهالي الرياض، إلى اليوم.

الهلال في العلم

شاع كثيراً في المواقع الإلكترونية رواية أن علم الدولة السعودية الأولى كان عبارة عن قماش أخضر يتوسطه هلال أبيض. بيد أن الرويشد يقول «لم نعثر على أثر مكتوب في التاريخ المحلي، أو نص مسجل عن تاريخ العلم في الدولة السعودية الأولى، ولا على أبعاده وقياساته؛ إلا أننا لجأنا إلى كثير من أهل الثقة الذين يمكن الاعتماد عليهم، ومعظم هؤلاء من المعمرين الذين عاصروا جيلاً أدرك بالمشاهدة رؤية علم الدولة السعودية الأولى. وقد اتفقوا جميعاً على أن الراية السعودية كانت خضراء، مشغولة من الخز والبريسم، وقد كُتبت عليها عبارة التوحيد. وكانت معقودة على سارية بسيطة».

في ما نشرت دارة الملك عبدالعزيز على حسابها في منصة «تويتر»، تغريدة جاء فيها «لاحظت دارة الملك عبدالعزيز تداول ونشر معلومات عن تاريخ العلم السعودي، ووضع رسم يوضح شكله، وأنه أخضر وفي وسطه هلال أبيض، وهذا غير صحيح ومخالف لما ورد في المصادر، وهو أنه راية خضراء مشغولة من الخز (النسيج) والبريسم (أجود أنواع الحرير)، مكتوب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، كما ورد ذلك في المصادر المعاصرة الأخرى للدولة السعودية الأولى، مثل علي بك العباسي الإسباني، والعلم السعودي اليوم هو امتداد لذاك العلم».

حافظ وهبة وتصميم العلم

وكما في رواية الهلال، انتشرت رواية أخرى، وهي أن مستشار الملك عبدالعزيز، الذي شغل منصب سفير المملكة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، حافظ وهبه هو من قام بتصميم العلم السعودي في تلك الفترة.

عن ذلك يقول الباحث في التاريخ العربي والإسلامي الدكتور عبدالله المنيف، «كان دور حافظ وهبه هو عملية التنسيق واختيار آلية توزيع العلم، فهو من أشار بأن يكون السيف أسفل كلمة التوحيد، وأن يكون اتجاه المقبض إلى الأسفل».

فيما نشرت وكالة الأنباء السعودية (واس)، قبل 5 أعوام، تفنيداً لتلك الشائعة، في خبر تناقلته الصحف السعودية فيما بعد. جاء فيه «بالنظر إلى الوثائق التاريخية؛ تبين أن تطور العلم السعودي متجذر في تاريخ الدولة السعودية منذ تأسيسها، في منتصف القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) مر في عدد من المراحل، عبر المؤسسات الرسمية في عهد المغفور له المؤسس الملك عبدالعزيز، ولم يكن مجرد فكرة شخصية».

 

نظام العلم

ولأنه يكتسب كل هذه الأهمية؛ لذا وضعت مواد منظمة للعلم. يقول المؤرخ الحمودي « في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز؛ أصبح للعلم نظاماً، حيث اعتمدت 3 نسخ للعلم:

العلم الوطني، وهو العلم الذي يرفع في المناسبات والشوارع والميادين.

علم خاص بالملك، وهو يشبه العلم الوطني، مضافاً إليه في الجهة اليمنى السفلية منه شعار المملكة (النخلة والسيفان المتقاطعان) باللون الذهبي.

علم القوات المسلحة البحرية والجوية».

في 2-2-1393هـ (1973م)، صدر نظام العلم للمملكة العربية السعودية، بقرار من مجلس الوزراء رقم 101، في 22 مادة.

وفي 10-5-1398هـ (1978)، صدرت اللائحة التنظيمية لنظام العلم، بقرار من مجلس الوزراء رقم 422، في 7 مواد.

وفي 10-3-1407هـ، (1987)، صدر قرار وزير الداخلية رقم 7، في شأن المواصفات القياسية المعتمدة من الهيئة العربية السعودية للمواصفات والمقاييس للعلم الوطني.

لا يُنكس.. لا يُلف على الأكفان

تنص المادة 13 في نظام العلم السعودي على: «لا يجوز تنكيس العَلَم الوطني أو العَلَم الخاص بجلالة الملك أو أي عَلَم سعوديّ آخر يحمل الشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، أو آية قُرآنية.

ورغم أنه لم يرد في نظام العلم مادة تنص على عدم جواز لف العلم الوطني على الأكفان؛ إلا أن الباحث في التاريخ الاجتماعي منصور عساف، كتب في حساب مركز الملك عبدالعزيز الثقافي «إثراء» على منصة «تويتر»، مقالاً مطولاً عن العلم السعودي، جاء فيه أن «العلم السعودي لم يسبق له في عمره الطويل أن لُفَّ على أكفان أو جثث للموتى من الملوك والقادة. كما نص النظام على ألا يُنكس أبداً في مناسبات الحداد، ولا يُحنى لكبار الضيوف عند استعراض حرس الشرف، كما هو معروف في كثير من الدول، وهي ميزة ينفرد بها عن باقي أعلام العالم. كما ورد في نظام استعمال العلم في حالة الحداد (المادة 16)، أنه يرفع العلم السعودي الخالي من كلمة التوحيد منكساً في المدة المُقننة لهذا الغرض، وفي المادة 17؛ يكون تنكيس العلم الخالي من شعار التوحيد، بوضعه في منتصف العمود المنصوب عليه».

محظورات العلم

إضافة إلى عدم جواز تنكيسه؛ احتوى «نظام العلم» على محظورات يجب مراعاتها في حال التعاطي مع العلم:

المادة 14: لا يجوز أن يلمس العَلَم الوطني أو العَلَم الخاص بجلالة الملك سطحي الأرض والماء.

المادة 15: يحظر استعمال العَلَم الوطني كعلامة تجارية، أو لأغراض الدعاية التِجارية، أو لأي غرض آخر غير ما نُص عليه في هذا النِظام.

المادة 16: يحظر رفع العَلَم الوطني باهت اللون، أو في حالة سيئة، وعندما يُصبح العَلَم الوطني من القِّدم بحالة لا تسمح باستعماله يتم حرقه من قبل الجهة التي تستعمله.

المادة 20: كُل من أسقط أو أعدم أو أهان بأية طريقة كانت العَلَم الوطني أو العَلَم الملكي أو أي شعار آخر للمملكة العربية السعودية أو لإحدى الدول الأجنبية الصديقة، كراهة أو احتِقاراً لسُلطة الحكومة، أو لتلك الدول، وكان ذلك علناً أو في محل عام أو في محل مفتوح للجمهور، يُعاقب بالحبس لمُدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تزيد عن ثلاثة آلاف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×