«الهدي» أحمد المسلم صياد سرق «الجدري» بصره.. ومنحه روح «مقاتل» معلم ناضل لمساواة المكفوفين مع المبصرين وظيفياً.. وغرس في أولاده التعلم والثقافة
سيهات: شذى المرزوق
في سيهات؛ يطلقون عليه لقب «الهدي»، وهي صفة تُستخدم في محافظة القطيف لمن فقد بصره ولم يفقد بصيرته.. هكذا كان أحمد حسن علي المسلم، الذين سرق منه الجدري نور عينيه، ولكنه لم يسلب منه عزيمته وكفاحه، وسعيه لتطوير ذاته، وشغفه بالقراءة والتثقيف الذاتي.
فالكفيف ابن الصياد، والذي مارس بنفسه هذه المهنة، لم يستسلم لواقعه، أصر على أن يتعلم، التحق في معهد النور للمكفوفين، وهو في الـ17 من عمره، فور تأسيس المعهد، لم يكتف بالتخرج من المعهد، بل عمل معلماً، في المدارس الحكومية، وخارجها، مما أهله لاكتساب لقب ثان؛ «المعلم».
حارب الجهل وسعى للتعلم والتخرج بنجاح وتميز، حتى أصبح معلماً في إحدى مدارس سيهات، رغم الإعاقة، وارتقى بعمله ليكون إدارياً مؤثراً في مدرسة أخرى.
لم يكتف بتطوير ذاته عبر القراءة والاستماع، بل سعى لغرس روح العلم في أبنائه، حتى نال ما أراد في هذا الصدد.
ناضل وعمل حثيثاً على مساواة المكفوفين مع المبصرين في الدرجة الوظيفية. تواصل مع المسؤولين بالخطابات، وصولاً إلى الديوان الملكي، حتى تحقق له ما أراد.
قبل 5 سنوات، رحل المسلم، لكن «صُبرة» تستعيد سيرة كفاحه، بالتزامن مع «اليوم العالمي لمحو الأمية» الذي يوافق الثامن من شهر سبتمبر من كل عام.
أحمد المسلم طالباً في معهد النور بالقطيف.
إرث من التحدي
يستعيد مصطفى المسلم في حديثه لـ«صبرة»، نتفاً من حياة والده المرحوم أحمد المسلم، الذي توفي تاركاً إرثاً من روح التحدي والمغامرة، والسعي الحثيث للتمكين الذاتي لدى أبنائه الذين اقتفوا أثره في حب العلم والتعلم، واكتشاف كل جديد.
المسلم من عائلة عرفت بممارسة الصيد، أباً عن جد، عمل توارثته أجيال من العائلة السيهاتية التي سكنت حي الديرة منذ عقود.
حتى جاء أحمد ليكسر القاعدة بالتوجه نحو الدراسة، بعد أن بلغ الـ17 من عمره، رغم اصابته بالعمى نتيجة مضاعفات مرض الجدري الذي أصيب به صغيراً. التحق ضمن أوائل الدفعات الطلابية في معهد النور للمكفوفين في القطيف، الذي تأسس عام 1384هـ.
في المعهد؛ أتم أحمد سنوات الدراسة الابتدائية، المتوسطة، حتى تخرج من الثانوية عام 1397هـ، وهو في عمر 29 عاماً.
رسائل مطالبة واعتراض
بعد التخرج؛ اعترض الشاب المسلم على ما وجده «غير منصف»، في حق المكفوفين الذين لا ينالون نفس المرتبة الوظيفية في التعيين التي ينالها المبصرون، فمراتب المبصرين المتخرجين تكون أعلى من المرتبة الوظيفية التي ينالها المتخرج الكفيف. وهو ما أثار حفيظته، وقام بعدة مراسلات، كان يمليها على أحد المقربين منه، لكتابتها، ومن ثم يقوم بإرسالها عبر البريد إلى وزارة المعارف حينها، وإلى إدارة المعهد.
يقول ابنه مصطفى «مما ذكره لي والدي؛ أن تلك الرسائل أرهقت المعهد، الذي طالبه بالكف عن الإرسال المكثف لهم، اعتراضاً على هذا الأمر، فكتب بعدها والدي خطاباً إلى الملك فهد بن عبدالعزيز (رحمه الله)، أرسله إلى الديوان الملكي في الرياض، للنظر في الأمر. ويبدو أن تلك المراسلات المستمرة اسهمت في حل مشكلة المكفوفين. وتحقق بالفعل ما كان يحلم به والدي، بتساوي الرتبة الوظيفية بين المكفوف والمبصر».
شهادة الابتدائية التي نالها المسلم عام 1392هـ.
المعلم الهدي
عمل المسلم معلماً للقرآن الكريم لمدة تقارب السنة، في مدرسة ابن تيمية الابتدائية في سيهات، التي أغلقت أبوابها عام 1999، وباتت مهجورة لعقدين، حتى تمت إزالتها قبل سنتين. تم تعيينه بعدها إدارياً في مدرسة السلام الابتدائية، حتى تقاعد منها قبل سنوات قليلة من وفاته.
أكمل مصطفى حديثه «عُرف والدي بين الناس باسم «الأستاذ أحمد»، بعد أن قام بتعليم أبناء وبنات حي السلام في سيهات القران الكريم، وذلك بعد انتقاله من الديرة إلى السلام، إذ اشترى منزلاً نقل فيه والده ووالدته وأخوته».
كما عرف بلقب تداوله الناس «الهدي»، في إشارة إلى قوة بصيرته، والإحساس بالآخرين، يقول مصطفى «كان يعرف الشخص القادم قبل أن يتكلم، كما أنه كان قائماً في شؤونه وشؤون عائلته بشكل كامل، حين كان رجالها (أخوته ووالده) يتغيبون لمدة تصل إلى شهرين، أثناء عملهم في الصيد، فكان المسؤول الأول عن العائلة. وعوضاً أن يتلقى هو المساعدة، نظراً لاعاقته البصرية، كان هو المبادر لتقديم المساعدة، حتى أنه ساهم في تزويج اثنين من أصغر إخوته».
شغف المسلم بالقراءة فاستعان بأصدقاء ليقرءوا له الكتب.
تنوع ثقافي وقرائي
بين المسلم والقراءة علاقة خاصة، خصوصاً الشعر، والأدب، والعلوم الفلسفية، والاقتصادية، ومختلف المجالات. في زمن كانت فيه الكتب شحيحة في السوق، فكان يراسل صديقه المصري شوقي طه، ويطلب منه إرسال الكتب التي يحتاجها، فيرسلها الأخير له بدوره.
لم تكن كل الكتب بلغة «برايل»، الخاصة في فاقدي نعمة البصر، فكان المسلم يقدمها إلى أصدقاء وأقارب، لقراءتها عليه. وأحياناً كان يتم تسجيلها له.
حفظ المسلم القرآن الكريم كاملاُ، واستمع إلى 160 كاسيت تفسير للمصحف الشريف للشيخ محمد متولي الشعراوي، أعادها مرتين حتى ختم التفسير.
اعتاد المحيطون به رؤيته حاملاً جهاز المُسجل أو الراديو القديم، على كتفه، لينصت إلى ما يُطرح فيها من نقاشات وأطروحات ثقافية وعلمية.
عن الكتابة، يقول ابنه مصطفى «اعتمد على والدتي، لكتابة ما يريد، وبعدها أختي، وأنا من بعدهم، حيث كان يملي علينا ما يريد كتابته ومراسلاته، ونعمل نحن على تدوينها وإرسالها أيضاً».
مكتبة ضخمة أروثها أحمد المسلم لأنجاله.
علاقة خاصة مع مصر
ولأن نيل مصر لا يسقي الناس ماءً فقط، بل علماً وثقافة؛ لذا لم يكن مستغرباً أن يرتبط أحمد المسلم بعلاقة خاصة مع «أم الدنيا». كان دائم التردد عليها، يجالس المثقفين من أصدقائه الذين يعرفون عنه حب القراءة، ومنهم صديقه شوقي طه، الذي استمر في قراءة الكتب له كلما أراد.
في مصر أيضاً؛ تزوج المسلم مرتين، يقول مصطفى «زواجاه لم يكتب لهما الاستمرار، ثم تزوج والدتي، وجاء بها إلى المملكة، وانجب منها بنتاً واحدة؛ الدكتورة وفاء المتخصصة في طب الوبائيات، ومحمد المتخرج من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن مهندساً، ومرتضى المتخرج من الجامعة ذاتها، وأنا أيضاً تخرجت من ذات الجامعة. كما أن له ابنتان من غير والدتي».
يختم مصطفى كلامه عن والده «أخذنا منه حب القراءة. عني أنا؛ عشقت الأدب والشعر، وكتبت فيه أبيات رثاء بعد وفاته (رحمه الله)، إثر مضاعفات مرض ألم به، تسبب بإصابته بـ3 جلطات انهكت جسده، حتى توفاه الله تاركاً لنا روحاً لا تقبل الهزيمة، وحباً كبيراً للغة الأم؛ العربية».