حجّي سعيد شِيف.. أن تضحك.. وتتأمّل.. بعمق..!

قالت الذاكرة إنه وجهٌ مألوفٌ. لكن الذاكرة؛ عجزت عن تحديد شيء. ثم ذكرني فتحي عاشور بنخلٍ زرناه الصيف الفائت، في سَيحة الخويلدية غربيّ التوبي. نخل اسمه “العشيريات”؛ دلّنا عليه صبحي قاسم، بعد ظهر يومٍ قائظٍ.
وكان “حجّي سعيد شِيف” ـ وقعتها ـ يعملُ على أن تستمرَّ الحياةُ فيه، ويُثمرَ النخل، وتخضرَّ الأرض على سجية ما يعرفه عن أسلافه. كنا نبحث عن أصنافِ نخيل، لكننا لم نجد في “الحشيفية” إلا المشهور من رطب القطيف. خنيزي، غُرَّهْ، خصبة عصفور، خلاص، وما يُدرج في معرفة عامة الناس.
أما الأصناف المسؤول عنها من قبلنا؛ فكانت أسماءَ في ذاكرته وأوصافاً في لسان خبرته ومعرفته القديمة. وليس غريباً أن يُثريك أي “شايب” من أسرة “شِيف” بالكثير مما يعرف ويتذكّر.
أسر نخلية
هذه الأسرة لها صورة فلاحية حميمة في الخويلدية. تُشبه صورة أسرة “الجبيلي” في القديح، و “لبّاد” في العوامية، والعبدالله المعروفين بـ “بيت اللُّومي” في الجارودية، و “العسيّف” في التوبي.. أسر وعائلات اقترنت أسماؤها بالنخيل؛ حتى لم يعد فكاكٌ بينها وبين سُمرة الأرض. كأن الواحد منهم كتابٌ مفتوحٌ على إرث أبيه عن جدّه، عن أبيه، وصولاً إلى أسلافٍ تعاقبوا على عمارة الأرض واستثمار الأعمار في الواحات.
“حجّي سعيد شِيف”؛ واحدٌ من هؤلاء المصطفّين في طابور الإرث الزراعي. لم يتحدّث عن عدد سنواتِ عمره، بيد أن “سواليفه” الآتية من عفو خاطره؛ تحكي الكثير عن إنسان النخيل في الخويلدية القديمة، بوصفها قطعةً من قلب الواحة الأخضر.
في العشيريات
في أغسطس آب من العام الماضي، 2017، ألفيناه في نخل “العشيريات”. بدا متخفّفاً من الحرّ مرتدياً “فانيلاّ” وسروالاً قصيراً. كان وحيداً في بستانه. وكما هي عادة “النّخالوَهْ”؛ بذل كرمه لنا وترحابه. وتقبّل أسئلتنا بأجوبةٍ ودودة. الفلّاح الناحل الذي كان مشغولاً بانتقاء ما أرطب من “الخلاص”؛ يتحدّث ويعمل في الوقت نفسه، ويرمي، أيضاً، ببعض عباراة الظرف علينا.
ومثلما كان أنيس المعشر، في لقائنا به العام الماضي، كان كذلك صباح أمس، حين جاء من الخويلدية إلى القديح ليُلقي التحية على واحدٍ من زملاء مهنته.. الحاج عبدالجبّار آل مرار، في نخل “أم الخير”. بدا الأمر ظريفاً، أن يتزاور أبناء المهنة الواحدة ويأتي أحدهم إلى آخر في قرية بعيدة نسبياً على من لا يملك سيارة. بدا التعارف تاريخياً بين “شيّاب” شغلتهم النخيلة طيلة أعمارهم، واحترفوا التعب والكدّ على طريقة واحدة، وتشاركوا “قلع الفسيل”، وتبادل “النقايل”، ولغة “الخبز والملح” معاً.
فكرة العمل
قصصٌ كثيرة تفلّتت من لسان “حجّي سعيد” أمس. كثيرة حدّ الإضحاك بعمق، والتأمُّل بعمق أيضاً. أنت تُصغي إلى آتٍ من زمن “بيوت العشيش”، يتحدث عن حرائقَ كبيرة أتت على جزءٍ عريض من القرية. الناس يطبخون خارج منازلهم خوفاً من الكوارث. تُصغي إلى رجل عرف الأرض، ومضى في خدمتها دون توقف، أو إجازة أسبوعية، أو إجازة سنوية، أو تقاعد.
من الرجال المسكونين بفكرة العمل المستمر.. المعطين بلا توقف.. تلك فكرة تعرف أن الحياة في العمل، والصحة في العمل، واللذة في العمل..!

حبيب محمود

مع الفوتوغرافيين محسن الخضراوي وصبحي قاسم، أغسطس 2017
في نخيل “العشيريات” 1 أغسطس 2017

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×