دلمون .. تيرم .. بحرين.. تعدّدت الأسماء والمعنى واحد

عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي

كثيرٌ منا يعرف أنّ اسم البحرين كان يُطلق على كامل الجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية، أو كما قال البكري في تحديد البحرين من كتابه المسالك والممالك:

هيَ بلادٌ واسعةٌ شَرْقِيُّهَا سَاحلُ البَحْرِ، وغَرْبيُّهَا مُتَّصِلٌ باليَمَامَةِ، وَشَمَالُها مُتَّصِلٌ بالبَصْرَةْ، وَجَنُوْبُهَا مُتَّصِلٌ ببلادِ عُمَاْنْ“.[1]

وهذا يعني أنّ اسم البحرين كان يشمل ما يُعرف الآن بـ(المنطقة الشرقية) من المملكة العربية السعودية، وجزر دولة البحرين، وشبه الجزيرة القطرية، ودولة الكويت.

وكثيرٌ منا يعرف أيضاً أنّ (بحرين) هو لفظ تثنية لكلمة (بحر)، وأنّ من أشهر التعليلات لتسمية هذه المنطقة بهذا الاسم هو وجود نوعين من المسطحات المائية فيها، وهو البحر المالح المتمثل في (الخليج)، وبحيرات وأنهار كثيرة تشبه البحر كانت تتشكل من تدفق هائل للمياه العذبة في واحتي القطيف والأحساء وجزيرة أوال، وما يتبع لها من واحات وبراري.[2]

غير أنّ الذي يجب أن نعرفه هو أنّ مُسمّى (البحرين) هو لفظٌ عربيٌّ أطلقه عرب شبه الجزيرة العربية القادمين من داخلها إلى شرقيّها في بداية القرن الثالث الميلادي، وهم الذين عُرفوا في التاريخ باسم مُجَمَّع (تنوخ)، أو (تنخ) كما في عشرات الشواهد الحجرية المكتشفة في المنطقة.

وإنّ معرفتنا لزمن إطلاق مُسمّى البحرين بلفظه العربي هذا في القرن الثالث الميلادي يطرح أمامنا سؤالاً عريضاً حول ماذا كان اسم هذه المنطقة قبل أن ينزل عرب داخل شبه الجزيرة العربية فيها؟ إذ لا بد من أنه كان لها اسمٌ آخر، وهذا بالفعل هو الحاصل، وقد أشرتُ في كتابي (جرّه؛ مدينة التجارة العالمية القديمة)[3] إلى النصّ الذي ذكره نصر الإسكندري، والذي نصَّ فيه على أنّ الاسم القديم لمدينة أوال – التي استقلّت الآن باسم البحرين – هو (ترم)،[4] من دون أن نعرف مصدره في ذلك، ولكن يبدو واضحا التشابه بين هذا الاسم؛ (تَرْم)، أو (Tarm)، الذي ذكره نصر الإسكندري لمدينة أوال وبين (تَير)، أو (Tyre) الذي ذكره سترابو في كتابه الجغرافيا كاسم لجزيرة أوال أيضاً،[5]، ومنه يتضح لنا أنّ نصراً أطلق اسم (ترم) على أوال نقلاً عن اسم سترابو (Tyre)؛ كما أرى أنّ ما كتبه نصرٌ تم حذف حرف الياء منه، وأنّ اسمها الصحيح هو (تَيْرْم)، وليس (تَرْم) مع صحة التسمية بالاسمين لأنّ (تير)، أو (Tyre) هي لفظة ذات أصل سامي قديم اشتقّ منها لفظة (تيّار) في العربية، وهو تيارُ البَحْرِ؛ أي موجُه؛ قال عديُّ بن زيد:

كالبحر يَقْذِف بِالتَّيارِ تَيَّاراً.

وأيضاً فإنَّ اللفظة (تير) كانت معروفة لدى سكان الخليج في القرن التاسع الهجري، وقد  استخدمت في المسميات اللغوية البحرية في المنطقة، وكان بحارة الخليج القدماء يستخدمونها في مصطلحاتهم البحرية كاسم لنجم بحري، ومنهم الربّان الخليجي الأشهر أحمد بن ماجد الذي كثر استخدامه له في شعره، ومنه قوله يصف المسافات البحرية بالقرب من البحرين والقطيف:

وَمِنهُ للبحرينِ سِتَّةْ أزوَامْ

في مَغربِ العَقرَبِ بالتَّمَامْ

وَمَغرِبُ (التّيرِ) عَلَى تاروتَا

ترى القطيفَ عامراً منعوتَا

و(تير) كذلك هو جذر في اللغة الأوردوية الهندية، ومنه اشتق الاسم (تار) التي تعني:البحر أيضاً،[6] وهذا كله يعني ارتباط هذا الجذر بمعاني البحر، وعلى ضوء ذلك، فإنه يمكن القول إن (تَيْرْم) هي كلمة مركبة من لفظين؛ هما: (تير) التي تعني البحر، و(م)، وهو علامة الجمع والتثنية في بعض اللغات الساميّة كالفينيقية والأوغاريتية، ويكون ذلك بإضافته إلى آخر الاسم كقولهم (بيتم) تثنية (بيت)،[7] وهذا يقودنا إلى أنّ معنى (تيرم) هو (بحرين)، وهو يعني أيضاَ أنّ التنوخيين عندما تنخوا في البحرين قاموا بتعريب الاسم (تيرم) إلى لغتهم، فسمّوها (بحرين).

وإذا سلّمنا بأنّ (اسم البحرين) الأقدم منه هو (تيرم) الذي يحمل ذات المعنى أي مثنى بحر، فماذا عن الاسم (دلمون) الذي هو أقدم اسمٍ معروف لهذه المنطقة ذاتها؟؛ هل كان يعني ذات المعنى؟ أي هل أنّ (دلمون) عند من أطلق هذا الاسم على هذه المنطقة كان يحمل ذات المعنى الذي يحمله اسم (البحرين)، و(تيرم) اللذين يعنيان مُثنّى بحر؟.

بطبيعة الحال، فإنّ الجواب على ذلك ليس سهلاً، فنحنُ لا نعرف عن الدلمونيين الشيء الكثير، وكل معارفنا عنهم أخذناها مما خلفوه في منطقتنا من آثار، وكذلك من النصوص الأكدية والسومرية والآشورية التي تم الكشف عنها لحضارات بلاد ما بين النهرين، والتي كانت شحيحة في الكم والكيف عموماً، وأما آثار الدلمونيين، فعلى الرغم من كثرتها إلا أنه لم يكن من بينها نصوص مكتوبة ذكرت من أحوالهم شيئاً باستثناء نصٍّ وحيدٍ هو حجر ديورانت الذي لا يتجاوز ما ذكر فيه السطر الواحد، وأما الآثار الشبيهة بالكتابة التي خلفها لنا الدلمونيون فهي الأختام فقط، وهي أيضاً كانت تتصف بالمحدودية في المعرفة العامة فضلاً عن معرفة معنى اسم دلمون لدى الدلمونيين.

غير أنه يمكننا الاستدلال في هذا الأمر بعلم اللغة باعتباره العلم المتوارث عند البشر لكون لغاتهم تعود في الأصل إلى مجموعات لغوية قديمة ومعروفة؛ مثل اللغات السامية واللغات الهندو أوروبية، وهاتان العائلتان اللغويتان هما العائلتان اللتان اشتهر سكان الشرق الأوسط برجوع لغات سكانه إليهما، وبخصوص الدلمونيين، فإنّ بعض الباحثين يرى أنهم مهاجرون من حضارة وادي الأندوس الهندية، ومن هذا المنطلق فإنني سأفترض أسوةً باسمي: (بحرين)، و(تيرم) اللذين هما مركّبان من لفظين اثنين أنّ الاسم (دلمون) قد يكون هو الآخر مركباً من لفظين اثنين، وهما: (دو) التي تعني (اثنين) في اللغات الهندو إيرانية، و(ليمون)، أو (leimṓn) اللاتينية، أو (λίμνη) بالإغريقية القديمة المنتميتين إلى اللغة الهندو أوروبية، وكلا اللفظتين الأخيرتين تُنطقان (لِيْمُوْنْ)، ولها عدة معانٍ؛ كلها تتعلق بالمياه والمسطحات المائية؛ مثل: بحيرة مستنقعية، أو تجمع مياه راكدة خلَّفَها بحرٌ أو نهرٌ، أو حوضٌ أو خزانٌ للمياه،[8] وجاء في قاموس وبستر (SINCE 1828) تحت الجذر (Limnetic):

“Probably from Greek limnḗtēs “living around lakes” (from límnē “standing water, pool, marshy lake” + -ētēs, extended form of -tēs, agent suffix), Greek límnē perhaps going back to an Indo-European paradigm … whence, with semantic and morphological differentiation, Greek leimṓn “damp tract of ground, moist meadow,” limen-, limḗn “protected creek, harbor”.[9]

وترجمته التقريبية:

ربما تكون ليمنيتيك (limnetic) من اليونانية ليمنيتس (limnḗtēs)؛ أي “العيش حول البحيرات”، والتي تتكون من (límnē) التي تعني “المياه الراكدة، أو حوض، أو بحيرة مستنقعية”، و (tēs)؛ أداة لاحقة)، وربما تعود límn اليونانية إلى النموذج الهندو-أوروبي (lei-mōn)،.. حيث مع التمايز الدلالي والمورفولوجي، فإنّ (leimṓn) اليونانية تعني: المسالك الرطبة من الأرض، والمرج الرطب؛ في حين تعني لفظتا (limen)، و(limḗn): خليجاً صغيراً، أو مرفأ“.

وتعني لفظة (Creek) في نص قاموس وبستر: جدول و جونٌ أيضاً، وكما نلاحظ، فإنّ معنى لفظة (ليمون)، أو (Leimṓn) في هذه اللغات الهندو-أوروبية القديمة يدور معناه حول المسطحات المائية كما سبق وقلت، وكما رأينا فإنه ورد من معانيها بحيرة وبحر وخليج، وهو ما يجعلني أتمسّك بطرحي، ورأيي بأنّ الاسم دلمون (Dilmun)، أو (Delmun) الذي كان يُطلق في الألفيات الثلاث قبل الميلاد على شرق شبه الجزيرة العربية كان يعني في لغة واضعيه ذات المعنى الذي تعنيه لفظة (بحرين) العربية، و(تيرم) الأوغاراتية، وكلاهما مُثنّى بَحْر، وكذلك الأمر بخصوص دلمون الذي أرى أنه يتكون من (دو)، أو (Do)، وتعني اثنين، و(ليمون)، أو (Leimon)، وتعني خليج أو بحيرة أو بحر أو نهر، وعند جمعهما بالنحت يكتبان: (Delmun)؛ أي أنّ الاسم قد يعني: (نهرين – بحيرتين – خليجين – بحرين)، والجدير بالذكر أنه إذا كنتُ قد ذكرت أنّ من ضمن تعليلات المؤرخين لسبب تسمية البحرين بهذا الاسم هو وجود بحرين من المياه فيها؛ أحدهما بحرٌ من المياه المالحة، والثاني بحرٌ آخر من المياه العذبة، فإنني أضيف هنا أنّ للأزهري أسير القرامطة في البحرين عامي 312، و313 للهجرة رأيٌ مقارب يقول إنّ البحرين سُمّيت بهذا الاسم للبحر الأخضر يعني الخليج، ولبحيرة هجر التي تقع شرقي قراها؛[10] كما يوجد للأصمعي والهمداني رأيٌ مقارب لهذا الرأي، حيث ذكرا أن سبب تسمية البحرين بهذا الاسم هو وجود عينين هائلتين فيها: اسمُ إحداهما (مُحَلّم)، وقد اتفقا عليه، وأما الأخرى، فاختلفا على تسميتها، حيث سَمّاها الأصمعي: (قَضَبَى)،[11] وسمّاها الهمداني: (جُرَيْب)،[12] وزاد الأصمعي إفادة حول هاتين العينين، فقال: إنّ محلم تقوم عليها هَجَر، وقَضَبَى تقوم عليها القطيف التي تُسمّى الخطّ،[13] وهجر والخط هما قصبتا البحرين.

———

[1] عبد الله بن عبد العزيز البكري: المسالك والممالك؛ تحقيق: الدكتور جمال طلبة (بيروت: دار الكتب العلمية 2003م)؛ ج1: 385.

[2] حمد الجاسر: المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية / المنطقة الشرقية (البحرين قديماً)؛ رسم [ بحرين ].

[3] عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي: جرّه مدينة التجارة العالمية القديمة (بيروت: دار المحجة البيضاء؛ 2009م)؛ الصفحة: 55.

[4] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م) ج1: 164 – 165.  

[5] انظر:

Strabo: geography, (Cambridge – London 1924) Book 16, p299 Chapter 3.

[6] أبو الفضل مولانا عبد الحفيظ بلياوى: مصباح اللغات قاموس عربي أوردو (لاهور: أبو بكر قدوسي 1999م)؛ الصفحة: 90؛ الجذر (تار).

[7]  جمال الدين الخضّور: عودة التاريخ؛ الانتربولوجية المعرفية العربية / دراسة في الأناسة المعرفية العربية التاريخية-  اللغوية ووحدتها (دمشق 1997م) ج1: 49.

[8] انظر:

HENRY GEORGE LIDDELL, M. A & ROBERT SCOTT, M. A.: GREEK-ENGLISH LEXICON (NEW YORK: HARPER & BROTHERS, PUBLISHERS, PP 848.

[9] انظر الرابط:

https://www.merriam-webster.com/dictionary/limnetic

[10] محمد بن أحمد بن طلحة الهروي الأزهري: تهذيب اللغة؛ تحقيق جماعة من المحققين (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة 1964)؛ ج5: 27.

[11] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأخبار والأشعار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م) ج2: 540؛ باب [نجران وبحران ونجدان وبحرين].

[12] الحسن بن أحمد الهمداني: صفة جزيرة العرب؛ تحقيق محمد بن علي الأكوع (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر 1394هـ 1974م)؛ الصفحة 281.

[13] نصر بن عبد الرحمن الإسكندري: الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأخبار والأشعار؛ تحقيق حمد الجاسر (الرياض: دارة الملك عبد العزيز 2004م) ج2: 540؛ باب [نجران وبحران ونجدان وبحرين].

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×