أحمد الملا.. حياة تجري من مصب إلى آخر
محمد الحرز* |
إزاء شخصية مثل أحمد لا يمكنك سوى أن تسمع صخب الحياة ترتج في قارورة جسده، وكأنها تريد أن تخرج، تريد أن تكسر الزجاج، وتعيد سبكه من جديد. تلك الحياة خبرتها عن قرب، ليس فيما يكتبه من إبداع شعري فقط، بل فيما يخفيه من بريق الحياة في عينيه، بل في نظرته الحنونة إليك كلما شعر بأنك قريب منه حد الالتصاق، بأنك لا تقول أو تفصح عن الكلمات بالقدر الذي يسبقها ضحكة أو نكتة تستعيد من خلالها تفاصيل اليوم الذي مررت فيه. بعض الأحيان اليومي لا يفصح عن شخصية المرء الذي تساكنه، تحتاج تلسكوبا حتى تتكشف مفرداتها. بالنسبة إلى أحمد ليس الأمر كذلك، ليس كما يظن المرء من أول وهلة، في داخله نهر من الحب والعطف والرقة لا يتوقف عن الجريان من مصب إلى آخر، في داخله شجر يانع لم تفرغه كتبه من ثمار سلاله، ولم تفسد كلما قطفها قارئ عابر في حقول إبداعه. في داخله أيضا حزن تراه مختبئا في أعمق أعمق قصائده، يتوارى بعيدا لا يمكن لمسه، أو إضاءته بكشاف، هناك عليك أن تنتبه إذا ما مررت بإحدى قصائده، إلى ما تقوله كلماته، إلى ما تفصح عن حزنها في أقصى حالات الفرح.
أحمد كائن يتنفس الحياة، ولا يراهن سوى على ما تقوده خطاه في دروبها الوعرة، سوى ما تهمس له؛ كي يكتبها كما هي، كما هي حين تدخل وتخرج خلسة من جسده. لا يراهن فقط، بل يكسر ما انحرف من جسده عنها، ثم يرميه في الهاوية. أحمد هو ذاك الصديق الذي أعرف أن ما يكتبه دائما ما يصاب بحمى الحياة، ونحن أصدقاؤه دائما ما نصاب بارتفاع درجة الحرارة كلما قرأناه.
أحيانا لا تكفي القراءة حين تريد منها قول ما لا تستطيع الكتابة قوله، ما لا تستطيع الكلمات حرث نفسها حتى ينكسر النصل على صخرة المعنى. قدر المتميزين من البشر أن يظلوا الكلمة العصية على التفسير، التأويل الذي يتعدد معناه ولا ينتهي، الجدار الذي يعلو كلما حاولت اللغة القفز فوقه، الغابة التي يتساكن فيها الحيوان المفترس بجانب الحمل الوديع. اللحظات القصوى في التميز عند هؤلاء أن يكونوا قريبين من الناس وبعيدين عنهم في نفس الوقت، بين استسلام للحب وبين الخوف عليه، ولا أظن أحمد الملا يخرج من هذين الحدين كما صورته كاميرا الحياة ثم وضعتها في إطار بارز يراه المتميزون الذين يرفعون رؤوسهم قليلا للأعلى.
______________
*صحيفة اليوم، الخميس 17 ربيع الثاني 1439 هـ الموافق 4 يناير 2018 العدد 16274