العلامة الخباز.. تجربة شامخة سلاحها العلم والإخلاص

صلاح الغانم

يدرك جميع المتابعين للثقافة الدينية الدور الكبير والمؤثر الذي يلعبه السيد منير الخباز منذ أن اعتلى أعواد المنبر الحسيني في مطلع الثمانينات من القرن الفائت. كما يلاحظ على خطاب السيد الخباز التطور المطرد والذي لا ينفك عن التطور في الاستعداد الجمعي للمضامين المطروحة في خطابه، يضاف له حرصه الشديد على التنوع الممنهج والذي يراوح بين التأصيل لقضايا عقدية جوهرية وبين التفاعل مع ما يجري في الساحة الثقافية، والذي يكون في أغلبه مستورداً من الثقافة الغربية.

 هذا العطاء المتميز والذي هو أحد ثمار اعتناء السيد الخباز بتحصيله العلمي والمعرفي على مستوى مناهج الحوزة العلمية من جهة، والانفتاح على الثقافة العامة ببعدها الفكري العميق من جهة أخرى قد جعل منه طاقة فكرية تجاوزت التعريفات الأولية لدور الخطيب الكلاسيكي، وإن كان وسمه بـ”خطيب” فيه شيء من عدم الدقة! وأنّا للخطيب بمعناه الوعظي، أو السطحي أن يلج غمار أدق القضايا العلمية والفكرية والفلسفية بمستوى تجعل القدرة على مناقشتها والاعتراض عليها منقبة بحد ذاتها يسعى لها كل مهتم بالشأنين العقدي والثقافي؛ حيث أصبح منبره وبدون أي منافس هو المعيار الذي من خلاله يرصد مدى إنتاجية الموسم العاشورائي من عدمه، بل أصبحت التجارب الواعدة والمنتجة تقاس على مدى تقارب مناهجها بأسلوب منبر السيد الخباز، وكمظهر لذلك تكفيه الجلسة الحوارية المفتوحة في نهاية كل موسم والتي أصبحت مع الوقت سنّة وتقليدا سائدا تحرص معظم المنابر ذات الصبغة الفكرية على إقامتها.

 فالسيد الخباز إذا ما نظرنا لجهة الأصالة، هو وبكل بساطة فقيه (بالمعنى الفني) نزل من منبر البحث الخارج ليخاطب غير المتخصصين؛ ولا هدف له سوى الارتقاء بالمستوى الفكري العام وتحصين البعد الأخلاقي بعيداً عن الركون لسرديات التراث والتي قد فقدت مفاعيلها أو ضاقت نفوس الشباب بأديباتها، ومن جهة الثقافة المعاصرة والقضايا الفكرية الملحة هو باحث لا يمل وطاقة قل نظيرها، لا تكتفي بالعناوين والقشور، بل بما هو أبعد من ذلك؛ بالنفاذ إلى أسس هذه القضايا متسلحاً بأدواته الفلسفية، هذه الأدوات التي تجلت مؤخراً بشكل واضح بعد تأسيس حلقات دروس الفلسفة التي جاوزت الأربعين حلقة، التي ضمت أطيافا مختلفة من مريدي الفلسفة من أقصى البرود الرواقي وإلى مشارف الأسفار الأربعة.

لكن – ومع الأسف – معظم الإثارات التي تدور حول القضايا الحداثوية تحديداً تدور حول نقطة واحدة وهي “فهم” السيد الخباز للمطالب الفكرية الحديثة.  فمنذ “الإنفجار العظيم” وحتى “النسوية” ومعظم الإثارات تحاول أن تقول: إن السيد لم يقع على الفكرة بشكل دقيق! أو على الأقل لم يعرضها بشكل جيد!   و”مع الأسف” هذه بسبب أن الإثارات ذاتها أصبحت نمطية ومتوقعة، بل وبعضها ساذجة ومكشوفة الأدوات.  فإما أن تكون مرتكزة على: مصادري أفضل من مصادرك!  وإما أن تكون قناعا لهوى ايدلوجيا وأحكام مسبقة.

 وبهذا الوصف لملامح خطاب السيد الخباز وما يثير حوله، تتضح حساسية غير المرحبين بمشروعه والذين هم وبكل بساطة يستشعرون أن النتيجة الطبيعية لنجاح مشروعه الفكري هو سحب البساط من تحتهم.  فكما أن مشروعه يراوح بين الأصالة والمعاصرة، وكما للمثقفين ومستهلكي الحداثة نصيبهم من الإثارة فيما يتعلق بأطروحاته الفكرية، فلا يمكن أن ننسى أن هناك أيضا حراس التراث!  ولذا فنحن موعودون كل سنة بباقة من الردود المتعجلة.  فالأرثدوكسية بطبعها الطقوسي المحض متجذرة عند الفريقين.  فكلاهما يوظف هالة (المصطلح) ليبين مدى قدراته على العراك، قبل أن نتبين أن ذلك كله كان عراكا خارج الحلبة!

وبلغ ذلك حد الكوميديا حين عبر أحدهم عن حنقه على السيد الخباز حين ذكر السيدة الزهراء عليها السلام في الليلة الأولى باسم (فاطمة) ولم يقل عليها السلام!  الأمر الذي لا يشجع على التعليق عليه!  ولا على التيار الذي يمثله حين حاول أن يقوم وقبل بداية الموسم بضربة استباقية عبر نافذة واتساب فكتب ليؤكد على أهمية (اقتصار) المنبر على ذكر المصيبة والسيرة ويحذر من (خطر) طرح القضايا الفكرية!  كانت صياغة الواتساب تعكس حرفة في الخياطة منقطعة النظير (made to measure) فكل ما ذكره من أمثله وشواهد، بما فيها تلك التي تختص بشكل المحاضرة كان ينطبق على محاضرات السيد الخباز وبتشويه لا تعوزه المهارة ومحاولة الانتصار لسردية المنبر المحصورة في شكلها التقليدي على حقلين أثيرين هما الوعظ والسيرة.

 هذه الفئة لا تستحق التوقف عند مقولاتها كثيرا فلا انسجام أصلا بينها وبين الواقع والالتفات لها في كل سنة هو فقط على سبيل ما يقوله أحد الظرفاء الذي انتقد تململنا من حر الصيف (…كل يوم قلتوا حر….) إشارة على أن الحر وبهذا المستوى هو المعتاد والمتوقع أصلا في أشهر الصيف.  طبعا هذه السطحية عابرة للتيارات وغير مقتصرة على فئة دون أخرى ولذا عبر أحد الغيورين على تفاصيل التاريخ الفرنسي عن استيائه من ذكر السيد الخباز لسيمون دوبوفوار على أنها زوجة سارتر! وما كان ينقصه بالفعل هو اقتراح أن يقوم السيد باللجوء لمأذون الأنكحة في الدائرة الرابعة في باريس!

هل معنى هذا أن السيد الخباز فوق مستوى النقد؟ بالطبع لا، وهذه ليست مثالية أو ادعاء. فتشجيعه على المشاركة في الجلسات الحوارية وتفاعله الجاد يكشف عن احتفائه بالنقد بشكل عام. فضلا عن قدرته على التراجع في حال ما كان النقد صائباً. (قدرته) هنا هي بالفعل محل تأمل فملكة التراجع والتصويب غير متاحة بشكل ميسور وبالذات أن هناك من يعتبرها علامة للضعف والتردد.

فالحوار ينتج ويوضح ويفتح طرق المراجعة والتصويب أما الإثارات الإعلامية فهي فقط توضح مشاعر صاحبها.  فالأهم هنا هو الذكاء في اختيار المعارك وليس البحث عن مأذون الأنكحة!  ولعل الإثارة التي تم تناقلها عبر الواتساب والخاصة بتعليق الأستاذ سلمان الحبيب ستشكل مثالا جيدا لعينة من النقاط التي تم رصدها من المحاضرة، بشكل تستحق الالتفات والحوار، بل لعلها الأفضل فيما يختص بمراجعة محاضرتي الليلتين الثانية والثالثة أثناء الجلسة الحوارية.  وإن ظلت أسيرة النمط: فهمي للنسوية هوالأدق وفهمك غير دقيق!  ومع ذلك لابد من الاعتراف بأنها قد طرحت بشكل ينم عن اعتناء حقيقي بالموضوع وبخلفية واعية بعيدة عن الفلاشات الإعلامية.

قضية النسوية والتلاعب بمآلتها وخلطها بحقوق المرأة هي من أهم المشاكل الفكرية المعاصرة والتي لها نهايات أخلاقية قد لا تحمد عقباها.  فحتى لو أعطيت المرأة حقوقها في أوروبا بعد نشوء الحركات النسوية فذلك لا يعطي أي مبرر لقبول الأعراض الجانبية (في الواقع هي غير جانبية) وأخذ الجمل بما حمل.   فمما يحمد للسيد الخباز في هذا الموسم تخصيصه ثلاث ليال لهذه القضية، حتى لو أثارت حولها بعض الإشكالات – على الرغم من تأكيده على عدم ممانعة الإسلام لعمل المرأة.  الجنبة المهمة والخطيرة في هذه القضية هي التخلص من الأسرة وهذا موجود في كتابات سيمون دوبوفوار بدون أي مواربة،  وبتعبير الشيخ أحمد السلمان في محاضرة الليلة الخامسة أن: الأسرة هي آخر المعاقل المراد هدمها.

‫2 تعليقات

  1. أحسنت يا بو عبد الله
    الحرب الشعواء التي لن تهدأ على كل ما هو مميز هي في الإساس نابعة من الحسد و من تهديد السيد للقلاع الرملية التى حتماً سوف تختفي إن عاجلًا ام اجلاً إن لم تكن بصوت السيد فبفعل الرياح العادية.
    هناك من يعمل و يجتهد و هناك من يتفلسف و ينتقد
    و ما أسهل الفلسفة و الانتقاد في الزمان.
    الحكم على الاشياء بشكل مسبق ينم عن أشياء في القلب.
    الله يكثر من أمثال السيد، فما أحوجنا للعقول المتطورة المتنورة فلم يعد الزمان هو نفس الزمان.

  2. استاذي العزيز صلاح
    هي مفاجأة جميلة ان ارى لك مقالاً يكشف عن بعض مخبوء عقلك وثقافتك و ما لم اتعرف عليه طوال سنوات الزمالة في العمل ، أسعدني في كتابتك هذا العمق وهذه “الوزنية” اضافة الى معرفة واضحة بالمجتمع و تماوج أفكاره والاختلافات في تقييم قامة ضخمة مثل السيد منير الخباز ، اعجبني حس الفكاهة في سخريتك الجميلة ممن يفرحوا باكتشاف “فتقة” في بناء شامخ وكذا ممن يعجز عن مجاراة المستوى الفكري لأطروحات السيد منير فيلجأ لاعتراضات من ينطبق عليه المثل القطيفي الأصيل : “أقول له تيس قال حلبه”.
    مقال من اجمل ما كتب عن ظاهرة السيد منير الخباز ، وهو بالتأكيد أفضل من معظم ما ينشر في هذه الصحيفة.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×