[5] حسن البريكي.. الطب حجب مواهبه في الشعر والثقافة والترجمة حياة الدمام الأولى ونشأة مدينة من الرمال
عدنان العوامي
دايماً معاك ـ دايماً معاك
دايماً معاك، دايماً ـ أتبع خطاك دايما
وأعشق بهاك دايماً ـ وراك وراك دايما
دايـــما مــعاك، ديمًا
تطلع م الأرض ـ أطلع لك
تنزل م السما أنزل لك
عبد العزيز سلامة
تَرى؟ هل كتب عبد العزيز سلامة هذه الأغنية ليناغي بها العشاق؟ أم ليزودني بمادة تعينني على مواصلة ملاحقاتي ومناكفاتي للدكتور حسن؟ ربما، وربما لن أحتاج إليها لو أن القدر لم يربطنا بهذا الرباط العجيب من المشتركات، والمفترقات، فما أن أتلفت يمينًا أو يسارًا إلا وكلانا لصاحبه بالمرصاد.
بعد نشر الحلقة الرابعة الماضية، تلقيت معلومة كنت قد أشرت – قبلاً – إلى عدم معرفتي بها، وهي دراسته الأوَّلية قبل الثانوية التي أكملها في الرياض؛ أكانت لدى والده (رحمه الله) في كتَّابه المهيب؟ أم في المدرسة النظامية؟ فتفضل صديق عزيز من متابعي هذا السمر، كنت سميته بيني وبين نفسي (المنجد في الأحداث والمعلومات)، فلطالما أنجدني بإضافات جهلتها، وصوب أخطاءً وقعت فيها، ذلك الصديق هو المهندس الأستاذ زكي عباس الخنيزي، فقد أسعفني ببعض مما جهلت من مراحل دراسة الدكتور بأن المرحلة المتوسطة درسها حسب نظام الثلاث سنوات والأول الثانوي، وكان -وزملاءه – في الدراسة: ميرزا الخنيزي، عبد الرزاق اليوشع، وهو: زكي الخنيزي جميعًا يعملون نهارًا، ويدرسون ليلاً، وجميعهم نجحوا، وأثناء عمل حسن في شركة الكهرباء كان يسكن معهم (في حي العدامة في فيلا مسلحة).
لم يذكر المهندس زكي التاريخ؛ لأعرف مدى التطابق والافتراق بين الدكتور وبيني، فقد كنت عملت في مقر إدارة السكة الحديد في الدمام، وسكنت في العدامة في أول ابتداء السكن فيها. وقبل أن تصبح حيًّا بالمعنى المعروف للحي، فلم تُشَدْ – بعدُ – فيها مبانٍ أصلاً، فضلا عن الـﭭـلل والعمارات، وإنما كانت أكواخًا، وعششًا، ومنادبين (جمع مندبيَّة)، وعَنين (جمع عِنَّة)، وبرستجات (برستيات عند من ينطقون الجيم ياءً)، ولا أتذكر أني رأيت فيها الكرجيل، لكن عدم مشاهدتي إياه لا ينفي وجوده، ويقينًا إن أبناءنا اليوم لا يستطيعون فهم هذه الألغاز والأحاجي، لا لقصور في مداركهم، ولكن لأنهم لم يروها، ولا أظن أن أحدًا شرح معانيها لهم، فلأشرحها لهم باختصار:
– العشة: غرفة تشاد – بالكامل – من سعف النخل، سقفها جملون من السعف، يغطى بالسميم (جمع سمة)، بسط كبيرة من الخوص المسفوف، وأعمدته جذوع النخل، ولا يدخل فيه – سوى هذه – إلا خشبة واحدة ضخمة طويلة تسمى (المطوَّلة)، تقوم مقام الجسر الذي يحمل السقف.
– المِنْدَبِيَّة: عشة، نصفها السفلي – بارتفاع الباب – مبني من الطين أو الجص والحجارة، وسقفها جملون كالعشة، ومواصفاته مواصفات العشة المتقدم وصفها.
– العِنَّة: (العنة في الأصل: (الحظيرة)، وتستخدم كالعشة تمامًا، إلا أن السعف المستخدم في حوائطها مزفون (أي مجدول بالحبال)، ومطلية بالجبس من الداخل، وقد تطلى من الخارج. استخدمت العنة في الحي السعودي (Saudi camp ) مساكن عمال أرامكو العموميين في الظهران.
– البرستج: عشة حوائطها من السعف المزفون (المجدول).
ـ الكرجيل: برستج مشاد فوق البيت.
الدمام كما رأيتها
تعرفت إلى الدمام في سن مبكرة جدًا، ربما في السنة السابعة من عمري، فقد أصبت -في طفولتي – بالتراخوما، وكان عمي السيد علي (رحمه الله) يعمل في الجبل -التسمية الشائعة للظهران آنذاك – لدى شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو)، فكان يأخذني معه للعلاج في مستشفى أرامكو في الظهران. آنذاك كانت السيارات العاملة بين القطيف والظهران تصنع في القطيف. لا تندهش، فأنا أقصد الكبينة (cabin)؛ أي مقصورة الركاب. تلك هي التي كانت تصنع في القطيف، فقد كانوا يستوردون نوعًا من السيارات ليس فيها من أجزاء السيارة سوى مجموعة الهيكل (Chassis)، المكونة من المكينة والعجلات، والزجاجة الأمامية (Windshield)، أما الصندوق (مقصورة الركاب) فيتم صنعه في القطيف، وربما البحرين أيضًا، أو الأحساء، لا علم لي بذلك، أما في القطيف فبعض من كان يعمل في هذه الصنعة من النجارين ما زال على قيد الحياة أطال الله عمر الباقين، وتغمد الماضين بواسع رحمته ورضوانه، وأسكنهم فسيح جنانه.
صناعة مقاصير الركاب
في حلقة سابقة ذكرت أسماء بعض من النجارين الذين عملوا في هذه الصنعة، وهم: (الحاج أحمد عاشور، والسيد حيدر الأخضر، والحاج حسن بن حسن الدهان (رحمه الله) وأخوه الحاج علي أطال الله عمره – وربما غيرهم، لا أذكرهم – في منجرات هؤلاء كانت تصنع مقاصير الركاب لسيارات شركة الخط الأزرق، التي أسسها الحاج عبد المنعم السنان وأخوه عبد الرسول، وشريكهما الحاج سعود أبو السعود ( رحمهم الله)، وعملت – مع غيرها = ردحًا من الزمن بين الظهران والخبر والدمام والقطيف، وكذلك نقل عمال شركة أرامكو من مقر عملهم في الظهران إلى القطيف، إلى أن تولت الشركة بنفسها نقل عمالها، فأسندت هذه المهمة للمقاول با خشب. فتوقفت السيارة القطيفية عن نقل العمال، لكنها استمرت في أداء عملها الاعتيادي)([1]). وكانت المناجر التي تجري فيها نجارة تلك السيارات في الغرب من دروازة المخطب؛ محيط نخل نص لدياجة (نصف الدجاجة) من الشمال والغرب، حاليًّا مطحنة السماح، شرقي مدرسة زين العابدين الحالية تقريبًا، وإلى الشمال من المدرسة أنشئت أول شيشة بنزين، أسسها أبناء الحاج طه الحداد، الحاج عبد الله وأولاده، وأخوه الحاج محمد (رحمهم الله). هذه السيارات كانت وسيلة النقل العاملة في نقل الركاب والبضائع بين الظهران والقطيف، وكان طريقها عبر الدمام والخبر، وكنت أستقلها أثناء ذهابي وإيابي من الظهران وإليه، وهذا ما أتاح لي أن أرى هاتين البلدتين، ومعهما الظهران إبان تبعيتهما للقطيف([2])، قبل أن تصبحا من أكبر وأحدث مدن العالم.
الدمام مطلع الخمسينيات
وإذا نظرت إلى البقاع وجدتها
تشقى كما تشقى الرِّجال وتسعد
أول ذكر للدمام في التاريخ – حسب اطلاعي المتواضع – ورد في ما كتبه النقيب جورج فوستر سادلير، في زيارته للقطيف في 2 رمضان، 1234هـ، الموافق 24 يونيه 1819م، بأنها قلعة، رممها رحمة بن جابر([3]). الثاني المؤرخ النجدي الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر، أورد ذكرَها في حوادث سنة 1259، و1260هـ، فوصفها بـ: (قصر الدمام في بحر القطيف، احتله عبد الله الخليفة وأولاده فأخرجهم فيصل بن تركي منه([4]). ثمَّ سكت القلم عن خط أي شيء عنها حتى أصدر الشيخ حافظ وهبة كتابه المعنون: (جزيرة العرب في القرن العشرين)، فأورد ذكر الدمام ضمن قرى القطيف، وهذا نصه: (الدمام: على الساحل الجنوبي الشرقي، تبعد تسعة أميال عن مدينة القطيف، وقد خربت في القرن التاسع عشر، ولكن عاد إليها العمران مرة أخرى بعد هجرة الدواسر إليها سنة 1340هـ، 1921م…)([5]).
وأحدث مؤرخ تعرض لذكر الدمام هو الأستاذ الشاعر عبد الرسول (عبد الله الشيخ علي الجشي “أبو قطيف”) في جريدة الفجر الجديد المحتجبة ([6])، بعنوان: (الدمام في مدرجة التاريخ)([7])، في جزأين، حاول في الأول منهما العثور على اسم الدمام دون طائل، وأكثر ما توصل إليه هو أنه ما دام ورد في المصادر التاريخية ذكر أماكن مجاورة لها كالظهران وسيهات فلا بد أن تكون داخلة ضمنها. وكأنه لم يلتفت إلى أن المدار على وجود تسمية للمكان يعرف بها، لا وجوده بكونه مساحة أرض ضمن حيز ما من بلد ما. أما في الثاني فتعسف اسمًا ليته أعرض عنه! قال: (قلنا – في العدد السابق – أنه لم يرد مع أسماء هذه المواضع اسم الدمام، ولكن الذي يقرب في نظر الباحث أن يكون الاسم طارئًا، وأن اسمها القديم (نبكات، كما يستخلص من قول الشاعر الخطي
واجتازت المزن العِشار وطبَّقت
بالسقي من عنك إلى نبكات
فالشاعر يقصد من البيت أن السحائب تسقي مدينة سيهات، وتطبَّق طرفيها. وإذا عرَفنا أن عنك تقع في الشمال منها، وجب أن تكون نبكات في الجنوب، ومعنى نبكات في اللغة المرتفعات، وأصول الشجر، ولو بحثنا عن مثل هذه لوجدناها تقع بالقرب من مزارع صالح اسلام الآن، وينتج من ذلك أن هذه الأرض كانت تسمى حينذاك بالاسم المذكور. ويؤيد ما نذهب إليه من كون الاسم طارئًا عليها ما حدثني به أحد مشايخ القطيف من أن سبب هذه التسمية، وجود طبل كبير علقه الأتراك في أعلى البرج القائم في البحر حتى الآن، ويسمونه – أي الطبل – الدمام، والغرض منه أن يستعمل لإنذار حامية القطيف فيما إذا دهمها خطر من البحر، ويقوم بهذه المهمة نفر من الجند المراقبين الذين يضربون عليه عند المفاجآت)([8]).
أظن أن مزيد الإجلال والتقدير الذي يفرضهما عليَّ حق صديقي الأستاذ الكبير أبي قطيف (رحمه الله)، لا يمنع من الاختلاف معه في هذا الاستنتاج، وإن اتفقت معه في أن الاسم طارئٌ، وأضيف إلى ما حدثه به أحد مشايخ القطيف (أن سبب التسمية طبلٌ معلق على البرج)، هذا الطبل صار مثلاً في القطيف نتمثل به فنقول في وصف المضاربة إذا وقعت بين اثنين أو بين جماعة: (كلمة من هذا، وكلمة من هذا، واطراگ من ذا، واطراگ من ذاك، وصاح الدمام)؛ من الدمدمة كناية عن شدة الضرب والصفع. أما استنتاجه أن (نبكات) هي الدمام، فلي اعتراض عليه، ذلك أن المتأمل في أسماء المواضع يلاحظ أن بعضها مستوحى من هيئة المكان وشكله، فخشم العان، مثلا، جبل في أعلاه بروز مشرف يشبه الخشم (الأنف)، والقرن، تسمى به أرض فيها جبل بأعلاه بروز يشبه القرن، فإن كان القرن صغيرًا سمي قرين، كالقرين في الكويت، والأحساء والقطيف، وكذا الجبل تسمى به البلدة القريبة منه، كأرض الجبل في العوامية، فإن كان أصغر من الجبل سموه جالجبيل أو القارَة، وهكذا. والنهيدين: جبلان صغيران متقابلان يشبهان نهدي امرأة، فالنبكات – كغيرها من البقاع – أعطيت اسمها من هيئتها، ففي اللغة: (النبَكة، مُحرَكَةً، وتُسَكَّنُ، وهذه عن الفَرّاءِ، ذَكَرَها في نَوادِرِه: أَكَمَةٌ مَحَدَّدَةُ الرَّأْسِ، ورُّبما كانَتْ حَمْراءَ، ولا تَخْلُو من الحِجارَةِ، أَو أَرْضٌ فيها صُعُودٌ وهُبُوطٌ، أَو هي التَّلُّ الصَّغِيرُ عن أبي عَمرو، ويُقال في جَمْعِه: نَبَكٌ محرَّكَةً، ونَبْكٌ بالسكونِ، ونِباكٌ بالكسرِ، ويُقالُ أَيْضًا في جَمْعِ نَبَكٍ: نُبُوكٌ بالضَّمِّ، وقال شَمِرٌ فيما قَرَأَ الأَزْهَرِيُّ بخَطِّهِ: هي رَوابٍ من طِين واحِدَتُها نَبَكَة. وقالَ ابنُ شُمَيل: النَّبكَةُ مثلُ الفَلْكَة، غيرَ أَنَّ الفَلْكَةَ أَعْلاهَا مُدَوَّرٌ مُجْتَمِعٌ، والنَّبكَةُ رَأْسُها مُحَدَّدٌ كأَنه سِنانُ رُمْحٍ، وهما مُصْعِدَتانِ. وقالَ الأَصْمَعِي: النَّبكُ: ما ارْتَفَعَ من الأَرْضِ. قال الأَزْهِرِيُّ: والذي سَمِعْتُه من العَرَبِ في النَّبَكَةِ وشاهَدْتُهم يُومِئُونَ إِليها: كُلّ رابِيَة من رَوابي الرِّمالِ كانت مُسَلَّكَةَ الرّأسِ ومُحَدَّدَتَه. تاج العروس).
هذا الوصف للبناك، مطابق لتلال كانت منتشرة – حتى عهد قريب – في الجنوب الغربي من سيهات إلى الظهران، والأرجح أنها المقصودة ببيت الخطي المذكور، يؤيد هذا وجود بلدة اسمها نبكات ورد ذكرها في (قانون نامه لواء القطيف) يقطنها ثمانون فردًا، سبعة وسبعون منهم متزوج، وثلاثة عزاب([9]).
متى استوطنت الدمام؟
في عام 1341هـ، 1920م نزح إليها – من البحرين – شطر من قبيلة الدواسر، فأقاموا فيها عششًا من سعف النخيل([10])، وأزعم أنها من سعف نخيل القطيف، وحتى مقاولو البناء كانوا من القطيف، وأعرف منهم اثنين هما المرحوم الحاج علي الحمالي (أبو يحيى)، والمرحوم الحاج أحمد العسيف (أبو صالح). وفي فترة عملي فيها كانت المباني فيها منحصرة في حي الدواسر، وحدوده من الشمال البحر، يفصل بينهما (شارع الملك عبد العزيز الآن)، ومن الغرب (شارع الخزان الحالي)، ومن الجنوب (\شارع الملك فيصل حاليًّا)، تقع عليه سوق الخضرة، (سميت سوق البحرين في ما بعد)، وإلى الغرب منها مبنى البلدية، وإلى الجنوب من شارع الملك فيصل تقع إدارة الشرطة والسجن وغربيهما عمارة بن درويش يفصلها طريق، وكانت بها مكاتب مؤجرة للسكة الحديد، وقد حلت مكان هذه المباني جميعها السوق التي تسمى الآن (سوق عيال ناصر). ومن الشرق مبنى شركة الغاز الأهلية. ولم يكن شارع الملك سعود قد وجد بعد، لكن عجلة العمران كانت سريعة جدًا بحيث أخذ العمران ينتشر في محيط الحي حتى اتصل بحي العدامة، وأصابه بما أصابه من العمران، فأقيمت فيه الفلل والعمارات، والفضل – في ذلك – لله عز وجل أولاً، ثم لهمة أمير المنطقة سعود بن عبد الله بن جلوي (رحمه الله)، فقد كلف شركة أرامكوا بتخطيط مدينتي الدمام والخبر، سنة 1358 – 1366هـ، 1939 – 1947م([11]) تخطيطًا حديثًا إليه يعزى تطورها السريع.
عملي في السكة الحديد
عملت لدى أحد المقاولين مع سكة الحديد السعودية عام 1950م([12])، اسمه سلمان أبو بشيت، إن لم تخني الذاكرة. كان عملي في نظافة المنازل التي أقامتها شركة أرامكو لكبار موظفيها الأمريكان، وبراتب يومي قدره وعده أربعة ريالات في اليوم، نصفها عن الشك والسهو ريالان. تؤدى لي منها كل 15 عشر يومًا ستة وخمسون ريالا نقدا، فيكون جماع الراتب الشهري كاملا مائة واثني عشر ريالا من سكة الفضة السعودية السالكة في المعاملة.
أتظن أن هذه الريالات الأربعة خالصة لي وحدي، لا يشاركني فيها أحد؟ كلا، وألف كلا، فهناك أجرة البيت (الحوش) في العدامة، ولا أذكر كم كان نصيبي من أجرته الشهرية، وإن كنت لم أنس فراشي المكون من حصير خوص، ودوشق([13])، أضف إلى ذلك أجرة السيارة نهاية الأسبوع. كان سكني – مع بقية زملائي عمال المقاول – في بيت مُبَغَّل، والمبغَّل – في اصطلاح معاصريَّ – هو المتعدد الأشكال، فلا هو عشة السعف خالصًا، ولا هو صندقة الخشب، ولا منادبين تامة، ولا عنين مستقلة، بل هو موزع بين هذه جميعًا فهو عبارة عن حوش (فناء) كبير وسطه عشش ومنادبين وعنين.
تلك هي مكونات البيت (الحوش)، أمضيت فيها قرابة السنتين، في جو من المرح والألفة، كنا حين عودتنا من العمل نتقافز كالغزلان من أبواب عربات القطار الخشبية، تستقبل أبداننا الرمال الرخية، والفضاء الرحب النقي، فلا عيون ترصدنا، ولا أحجار تمنع مصارعاتنا فوق الرمال، نحمي وطيسها عراكًا. فحين نصل إلى البيت ينهمك المكلفون بالطبخ، بإعداد وجبة العشاء، وينهمك الباقون في تزجية الوقت بلعب الورق أو الكورة والهول، فوق الرمال.
آنذاك لم يتشكل بعد حي العدامة، بل لم يكن به مع بيتنا كثير بيوت، كان تقديم طلب للبلدية للحصول على أرض مجازفة مع أنها مجانية، فالحكمة الشعبية تقول: (البيت اللي ما هو في بلدك، لا هو لك، ولا لولدك)، ولقد سمعت – قبل انضمامي إلى الحوش – أن رئيس البلدية جاء إليها طالبًا من سكانها تقديم عرائض ليعطوا أراضي مجانية، فرفضوا، لأن الطلب يستلزم وضع طوابع عليه، والطوابع ذات قيمة، هذا أولا، وثانيًا كاتب العرائض يتقاضى فلوسًا، وثالثًا إن الطلب يستلزم مراجعة البلدية، وهذا معناه غياب يوم أو أكثر، وغياب اليوم عقوبته خصم يومين من الراتب.
تلك جولة في مشتركاتي مع الدكتور وذكرياتي في ملهى صباه، وذكرياته مع إخوان صباه، ولدات شبابه. آمل أن لا قد أسففت، أو أثقلت، وإن كنت أو قاربت فالعذر عن كرام القوم مقبول.
جولة طويلة جذبنا إليها الاستطراد؛ بحثًا عن مشتركات اتفقنا في بعضها واختلفنا في بعضها الآخر- اتفقنا فيها عملا، وسكنا، واختلفنا في التعليم، فهو درس في العدامة المراحل الممهدة للجامعة، وأتمها في الرياض، حتى انتهى به شغفه بالعلم إلى ألمانيا، وتخرج طبيبًا من خيرة أطبائنا المثقفين، أديبًا، كاتبًا مترجمًا، خدم بلده ووطنه بأمانة وصدق وإخلاص.
أما أنا فبقيت أحبو على دفاتر لغة (الأردو)، أقلد حروفها، بأنامل مضطربة حرون، حتى وأنا أحمل المكنسة والجاروف، وأخبئ الدفتر والبنسل لكيلا تراهما عيون المتطفلين. استغنى المقاول في السكة الحديد عن خدماتي؛ لأنه وجد من الإسراف توظيف عاملين لعمل يمكن أن ينجزه واحد. ولأن الرزق بيد الله سبحانه، فقد فتحه لي عند مقاول آخر في جمرك الدمام البري، كان بجانب ذلك الجمرك مخيم للحراس والموظفين، فحملت عدة التنظيف في ذلك المخيم، حتى صفر 1373هـ 15 اكتوبر 1953م. حين أضرب عمال شركة أرامكو، فتوقفت عن العمل لتوقف السيارة التي تنقلنا إلى الدمام، ومع أنني لم أفصل هذه المرة، إلا أنني وجدت في نفسي انقباضًا لم أجد له تفسيرًا، فطرحت قطعة اللوح الخشبي الصغيرة التي تحمل اسمي ورقمي والتي يسمونها النمرة. وغادرت ذلك المخيم الموحش إلى غير رجعة.
———–
([1])انظر: حسن عبد الجبار شيخ الهندسة الأول، الحلقة الأولى، عدنان السيد محمد العوامي، صحيفة صبرة الإلكترونية، 24/2/2021، الرابط: https://chl.li/O7FhD
([2])عن تبعية هذه المدن للقطيف انظر: (الخبر واجهة المنطقة الشرقية)، تأليف عبد الله أحمد الشباط، إنتاج هجر للإنتاج الفني والإعلامي، الخبر، الطبعة الأولى، 1420هـ، 1999م، ص: 37، وصورة خطاب ممثل الحكومة في مكتب المعادن والأشغال العمومية بوزارة المالية، يتضمن أمر الملك عبد العزيز بتبعية الدمام والخبر لإمارة القطيف.
([3]) يوميات رحلة عبر الجزيرة العربية من القطيف في الخليج إلى ينبع في البحر الأحمر، جورج فورستر سادجلير، ترجمة عدنان السيد محمد العوامي، راجعهاة عبد المجيد سعيد الجامد. مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1437هـ 2016م، ص: 59.
([4])عنوان المجد في تاريخ نجد، عثمان بن عبد الله بن بشر، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، الرياض، العدد 27، الطبعة الرابعة، 1403هـ، 1983م.
([5])جزيرة العرب في القرن العشرين، حافظ وهبة، سفير المملكة العربية السعودية بلندن، كتب مقدمته بلندن، في رمضان، 1354هـ ديسمبر 1935م، دار الآفاق العربية، القاهرة، دون تاريخ، ص: 75.
([6])الفجر الجديد، جاء في تعريفها: جريدة أسبوعية جامعة صاحب الامتياز ومدير التحرير: أحمد الشيخ يعقوب. رئيس التحرير يوسف الشيخ يعقوب. توقفت بعد العدد الثالث.
([7])الفجر الجديد، العدد الأول، السبت، 11/7/1374هـ، ص: 4، والعدد الثاني، السبت، 25 رجب، 1374هـ، 19 آذار (مارس) 1954م، ص: 3.
([8])الفجر الجديد، العدد الثاني، السبت، 25 رجب، 1374هـ، 19 آذار (مارس) 1954م، ص: 3.
([9])قانون نامة لواء القطيف لعام 959هـ، 1556م، د. فيصل الكندري، المجلة التاريخية العربية للدراسات العثمانية، منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، زغوان، تونس، أكتوبر – نوفمبر 1997م، ص: 354.
([10])دور شركة الزيت العربية الأمريكية “أرامكو” في تنمية المنطقة الشرقية (1363 – 1384هــ/ 1944 – 1964م)، د. عبد الرحمن بن عبد الله ثامر الأحمري، مطابع الحميضي، الرياض، الطبعة الأولى، 1428هـ، 2007م، ص: 167.
([11]) دور شركة الزيت العربية الأمريكية “أرامكو” في تنمية المنطقة الشرقية (1363 – 1384هــ/ 1944 – 1964م)، د. عبد الرحمن الأحمري، مرجع سابق، ص: 192.
([12])في منتصف الستينات الهجرية،) الأربعينيات الميلادية)، اقترحت شركة أرامكو إنشاء ميناء كبير على ساحل الدمام يتسع لاستقبال السفن الضخمة التي تنقل مستلزمات أعمال صناعة النفط ومعداتها، وقد استلزم ذلك إنشاء سكة حديد، وعندما عُرض الأمر على الملك عبد العزيز آل سعود (رحمه الله)، أمر بتنفيذ المشروع كاملاً ليصل إلى العاصمة الرياض، وبدئ في تنفـيذ المشروع في 26 ذي القعدة 1366هـ 21 أكتوبر 1947، وفي 19 محرم 1371هـ 20 أكتوبر 1951 أقيم احتفال رسمي بافتتاح الخط في الرياض بحضور الملك عبد العزيز. وظلت السكة الحديد تعمل تحت إشراف شركة أرامكو لفترة من الزمن، ثم ارتبطت بوزارة المالية، وسميت مصلحة السكة الحديد. تاريخ السكة الحديد في المملكة بدءًا من الأربعينات الميلادية، جريدة الاقتصادية، الاثنين، 22 سبتمبر 2014م، الرابط: https://chl.li/U5GoR
([13])الدوشق في العربية، البيت ليس بكبير ولا بصغير، (تاج العروس، ولسان العرب) وفي الفارسية: دوشك: طراحة، فراش. المعجم الذهبي. مرجع سابق.