القديح.. رحيل هاديء لـ “الجزار الشاعر” وُلد سنة 1346.. وبدأ حياته خضّاراً.. وحصل على الابتدائية في سن الـ 42
القديح: صُبرة
لأكثر من 40 سنة؛ عاش عبدالكريم العبيدان متشبّهاً ـ ربما من دون قصد ـ بشاعر عاش في العصر المملوكي، عُرف بـ “الجزار الشاعر”، أو “ابن الجزّار”. وبين مهنة “الجزارة” وهواية الشعر؛ زاوج العبيدان حياته.
يكتب الشعر ويُلقيه في المنابر، ويقطّع اللحم ويزنه لزبائنه في محله في مسقط رأسه، بلدة القديح. استمرّ جزّاراً وشاعراً من الطراز الكلاسيكي الذي يريد من الشعر ثمنين: الثواب أولاً، بحرصه على موضوعات دينية، من الوعظ والإرشاد إلى مدائح النبي وأهل البيت، وثانياً مسايرة المناخ الاجتماعي المشبّع بالأدب والشعر.
وكان الشيخ عبدالحميد الخطي يلاطفه بوصفه “شاعر القصّابين”، أي الجزارين.
لم يكن “أبو عبدالرؤوف” ذائع الصيت، ولا حتى مهتماً بالشعر، إلا من الزاوية الدينية والاجتماعية، وربما كان ذلك سبباً في وضوح قناعة لديه؛ هي أن ما يكتبه لا يُلقى خارج مسقط رأسه الذي شهدت مناسباته الاجتماعية فرصاً لإنتاج الشعر وإحياءً للمنابر.
تحلُّ ذكرى مولد؛ فيقف “أبو عبدالرؤوف” مع الواقفين على المنصّة، يُلقي قصيدته برتابة وهدوء. ربما تكون القصيدة نفسها التي ألقاها في الذكرى نفسها من العام الماضي، لكنّه حريصٌ على مشاركة الناس سعادتهم في مناسبة بهيجة، وحريصٌ ـ قبل ذلك ـ على شرف مدح النبي وأهل بيته.
في وسط المتدينين الكلاسيكيين في القطيف؛ يأخذ مديح النبي وأهل بيته مكانته، وبعمق أيضاً. إنهم يتناقلون ما يُنسب للإمام الصادق عن الثواب الجزيل الذي يناله من يرفع شأن النبي وأهل البيت بالشعر. الشعر الذي كان في زمان الخلفاء إعلاماً مؤثراً وضرورياً. كان مديح أهل البيت نوعاً من الإعلام الشعبي الموازي للإعلام الرسمي الذي سيطر عليه كبار القوم في الدول.
ومع تتابع تاريخ الأدب؛ تحوّل مديح أهل البيت، عيناً، إلى نوع من الثقافة الشعبية المهمة. وفي تاريخ أدب القطيف القريب؛ تزخر المخطوطات بإنتاج يفوق التصور من الشعر الديني، وبالكاد لا تجد في سيرة رجل دين شعراً “ولائياً”، كما يُعبَّر عنه اليوم، ويُقصد به الشعر المخصص في النبي وأهل بيته، مدحاً أو رثاءً.
وتبع الخطباء العلماء في هذا النهج، نهج الولاء للبيت النبوي والتعبير عنه بالشعر، أو بالنظم، أو بالرجز في أقلّ الأحوال، طمعاً في المثوبة قبل كلّ شيء..!
ابن الخضّار
وسط هذه الثقافة نشأ “الحاج عبدالكريم” في القديح، بعد ولادته فيها سنة 1346هـ، أي بعد انضمام القطيف إلى الحكم السعودي بـ 15 سنة فقط. ووقت إعلان توحيد المملكة تحت اسمها الحالي؛ كان قد بلغ سن السادسة. وفي هذه المرحلة من تاريخ المملكة؛ لم يكن التعليم الموفر إلا الكتّاب. ومثل بعض نظرائه من الأطفال؛ اكتسب القدرة على القراءة أكثر من الكتابة. وبتأثير سماعه المستمرّ للخطباء الذين يُكثرون من إنشاد الشعر في النعي والمديح؛ أخذ يلتفت إلى إيقاعات موسيقى الشعر، ويحاول تقليده..!
بقي “عبدالكريم” على حالة نصف المتعلم زمناً طويلاً. حين شبّ وجد نفسه أمام واقع حياة لقمة العيش. ودخل في واحدة من أقسى تجارب الحياة.. رافق والده إلى الظهران لبيع الخضار. إنها المهنة التي وجد نفسه عليها طويلاً. الذهاب من القديح إلى الظهران كان سفراً طويلاً، وقاسياً على شابّ لم يصلب عوده بعد.
لكنها المهنة التي ورثها عن أبيه بعد وفاته، واستمرّ عليها كذلك، قبل أن يوجد لنفسه مهنة أخرى في “الجزارة” المعروفة ـ في القطيف ـ بـ “القصابة”. الجزار في القطيف قصّاب. إنها المهنة التي استمرّ عليها إلى أن تجاوز السعبين من العمر. آخر محلّ له كان في مبنى محلات البلدية القديم.
وحين قارب الأربعين من العمر؛ مال إلى تطوير نفسه تعليمياً.. هو مشغول طيلة النهار، ولا مجال للتعليم إلا في الليل. وهكذا انضم إلى مدرسة القديح الليلية، وحصل على شهادة المرحلة الابتدائية سنة 1388، أي حين بلغ الـ 42 من العمر..!
الشهادة الابتدائية حصل عليها سنة 1388هـ
منابر القديح
لا توجد معلومات واضحة عن بداية اهتمامه بكتابة الشعر. لكنّ الحد الأدنى من الاحتمالات يُشير إلى مشاركته في منابر القديح منذ أواخر السبعينيات. وقد استمرّ إلى التسعينيات حاضراً بقصائد المديح والرثاء المعتادة في البلدة. وفي عقد الثمانينيات شهدت البلدة نشاطاً أدبياً دينياً لافتاً.
أسماء وقصائد وكلمات ومنابر تدور مع العام، وتعبّر عن نفسها في كلّ مناسبة سعيدة من مناسبات النبي وأهل البيت. ووصل الأمر إلى حدّ أن أمسيات الشعر والأدب رافقت حتى زيجات المتدينين.
وليس كلّ من هبّ يُمسك بسمّاعة مكبر صوت أمام حشد. الشعراء وأشباههم لهم ذلك. وهؤلاء تتكرر وجوههم تقريباً في كلّ مناسبة. وهناك الشعر الشعبي، والفصيح، والكلمات. وكلّها محصورة في الفعل العقديّ الخاص. بمعنى: إن مجتمع البلدة كان يُعبّر عن حالة من حالات التدين المحافظ.
ظهرت وجوه ما زالت معروفة في البلدة، أمثال محمد مكي الناصر وجاسم عبدالشهيد (الشيخ لاحقاً) والملا محمد عبدالنبي والشيخ عبدالعظيم الشيخ وناصر الخاطر (الطبيب حالياً) والسيد حسين الخضراوي وعبدالخالق الجنبي، وكان وجه والحاج عبدالكريم العبيدان واضحاً بينهم، ربما لأنه الأكبر سناً.
يلقي شعراً في إحدى مناسبات القديح ـ الثمانينيات الميلادية
شعره
شعره من النوع الكلاسيكي المنظوم على السليقة. لم يتلقّ العبيدان تعليماً متقدماً في اللغة ولا النحو ولا العروض. لكنه كان يقدم ما هو موزون ومقفّى معتمداً على سليقته. وفي القطيف ينتشر هواة الشعر على هذا النحو في كلّ مدينة وقرية، خاصة في أوساط المتدينين الذين يتربّون ـ منذ الصغر ـ على تلقّي الأدب الرفيع من أصوات الخطباء على مدار العام.
وقد بقي شعره بخط يده، إلى أن اهتمّ به الشيخ عبدالعظيم الشيخ، فأخرجه له في طبعة منزلية تحمل اسم “نيل الأماني”.
مصدر الصور: ابن الفقيد: الملا سعيد عبيدان
من مناسبات القديح في ثمانينات القرن الماضي
رحمك الله يا أبا عبدالرؤوف رحمة الأبرار
كنت من خيرة أصحاب الوالد الاوفياء فرحمكم الله جميعاً وحشركم مع محمد وآله الطاهرين
رحمك الله يا مؤمن رحمك الله ابا عبدالرؤوف
لي بعد بينكَ في الأنفاسِ قصتها
كأنّما جرى من حزنها سقمي
فالفقدُ حزنٌ و آهاتُ الجوى وجعٌ
تستلُّ آهً على الخدَّينِ في ألمِ
عبدالكريم أيا حرفَ الولاء هوىً
و للحسين اغتدى بالعشقِ و القلمِ
حُبّ الحسين غرامٌ كنتَ خادمهُ
فأنبتَ الفيضُ في الأبناءِ من خدمِ
✍🏻 عِمَادُ آلَ عُبَيْدَان
رحمك الله ياوالدي العطوف الحنون وجزاك الله أفضل الجزاء على مابذلت من مجهودات في تربيتنا أنا وإخوتي وخواتي …..تبكيك العيون ويعتصر القلب حسره لفراقك ولاكن لانقول إلا إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم إجمعنا معه في جنات النعيم مع محمد وال محمد الطيبين وعندك نحتسبه يارب العالمين.