البُوسِندة.. عاشق حساوي مشغول بـ “التجسيم” وإحياء أمجاد دروازة الكوت والقيصرية والعقير ذاكرة الأماكن باقية في مجسّمات تهتم بالدكاكين والواجهات وتفاصيل الحياة
القطيف: أمل سعيد
حين تزور معرض “البوسندة” لن تفلح في تخمين عمر صاحب الأيدي التي شكلت هذه المجسمات العتيقة، ونقشت تفاصيلها القديمة، لكن الواقع يفاجئك بشاب في بداية الأربعينات من عمره، استهواه التراث وعشق آثار الزمن، شاهد أباه مراراً يصنع الصناديق الخشبية في البيت، لكنه لم يلق بالاً لذلك، فقد كان مأخوذاً بالرمل والماء.
“عندما كنت صغيراً كانت رمال الشاطئ تسرقني من كل متعة أخرى، فإن شحت استبدلتها بخلط التراب والماء، في مزرعتنا، لأصنع منهما عجينة أستطيع بها أن أبني ما شئت من أشكال ومجسمات”.
ويكمل “كبرت وكبر معي عشق التشكيل.. اكتشفت أني قادر أن أصنع عالما مصغراً من مواد بسيطة، وأن أنقش التفاصيل التي تملؤني وأهبها حياة في عيون الآخرين”.
هكذا بدأ جاسم محمد البوسندة في ممارسة التشكيل وبناء المجسمات، ومنذ عام 1415 أصبح هذا الفن هاجسه، لا يقاوم غوايته ولا يستطيع هجرانه.
التحق بالقوات المسلحة، التي شغلته عن أمور كثيرة بحكم غيابه المتكرر، إلا أنها لم تستطع أن تشغله عن عشقه الأول؛ فما إن يجد نزهة من الوقت حتى يخلو بقطع الفلين والخشب والألوان.
وفي منتزه المشقر (المشتل سابقاً) يودع البوسنده أعماله التي تربو على 500 في معرض خاص، ليهب زائريه جرعات من الجمال والحنين يرتشفونها مع كل وقفة بجوار بيت قديم أو طريق رملي أو شجرة أحنت ضلوعها على جدار لتنشر ظلالها في فنائه، ولا ينتهي بعيون راصديه إلا بفتح بوابة الذكريات المحفورة عميقاً في دواخلهم.
معاودة الحلم
يستعين البوسندة في صناعة مجسماته الأثرية بالصور القديمة لتلك الأماكن الدارسة، وبزيارتها وقضاء وقت كاف لدراسة تفاصيلها إن كانت ماتزال على قيد الوجود، يقول “لم أشهد بيوت الطين، لكن شغفي بالتراث هو ما يجعلني أسأل كثيراً وأبحث في تفاصيلها، لذا يظن بعض من يشاهد أعمالي أني قد عاصرت تلك المرحلة ويتفاجأ حين يعرفني، فأغلب تفاصيل التراث آخذها من الصور القديمة”.
ويهب البوسنده العمل الذي بين يديه جلّ وقت يومه، فبين التصميم والإنشاء يستغرقه الوقت تماما، وما إن ينتهي من حُلم حتى يعاود آخر وبنفس شعورالرغبة الأولى “يختلف الوقت الذي أقضيه في صناعة المجسمات، وغالبا يأخذ العمل من 3 أيام إلى أسبوعين، ويرجع طول الوقت وقصره إلى عدة عوامل منها حجم المجسم والتفاصيل التي يجب أن أراعيها في العمل”.
مواد بسيطة
ومن مواد بسيطة ومتوافرة تقريباً في كل بيت ينتج البوسندة عملاً إبداعيا مميزا “أستخدم الفلين المضغوط لتشكيل الهيكل الخارجي للمجسم، ثم أكسوه بالخيش المثبت بالصمغ، وبعد هذه المرحلة يأتي دور الجبس والأسمنت الأبيض والطينة الحمراء أو الرمل على حسب الأنسب للعمل، وبعد أن يجفف تُدخل عليه الألوان للتعتيق وإضفاء المؤثرات المطلوبة على المجسم، أما الخشب المضغوط فهو لتصميم واجهات البيوت القديمة، كما أستعين بالأخشاب الصغيرة والأغصان لتفصيل المجالس والمفارش والأدوات المنزلية”
داخل الأحساء وخارجها
يطمح البوسندة أن تمثل أعماله توثيقاً دقيقاً لتاريخ وإرث الأحساء المعماري والاجتماعي، لذا فهو ينشط في المشاركة في الفعاليات والمعارض “لي مشاركات كثيرة على مستوى الأحساء والشرقية سواء في اليوم الوطني وفي معارض المدارس والجامعات وأرامكو وأيضا في جبل قارة والمشقر وجمعية الثقافة والفنون وغيرها، أما على مستوى المملكة فقد دُعيت لحضور مهرجانات الدرعية والجنادرية، ولكن لم يتم ذلك، نظرا لأن ظروف عملي كعسكري سابق لم تسمح للمشاركة فيها” ويكمل “أتمنى أن يحالفني الحظ لحضورها مستقبلا، خاصة أني الآن متقاعد ومتفرغ تماما لعملي في التشكيل”.
موهبة محضة
يقول البوسندة “لم ألتحق بدورة في حياتي، إنما هي منحة الله التي يهبها ويهب أمثالها لمن يشاء، وأنا مؤمن أن مثل هذه الحرفيات تولد كما نولد بقدر إلهي، ولا يمكن تلقينها لأحد، لذا فأنا لا أجد أن بمقدوري أن أجعل أحد أولادي يمارس ما أفعل؛ مع تأكيد رغبتي الشديدة في أن يتقن أحدهم ذلك”، ويكمل “أنا أعمل ما أحب، وأجتهد كي أظهره بشكله اللائق، وأتمنى أن أوفق لأضيف لمسة جديدة تبقى في عالم الحرفين والراسمين والمبدعين، وها أنا أسعى قدر استطاعتي كي أعطي هذا اللون من الفن تميزه وفرادته، وفي الأخير هي رسالة نوجهها للعالم، مفادها أن تراثنا، في كل جوانبه، غني ومشحون بالجمال والأصالة”، ويضيف البوسندة “خلف كل عمل من أعمالي قصة حب، لكن بيوت الطين تستأثر بالمساحة الأكبر من قلبي، ربما لأنها تعني الجذور والأصول، وتربطنا بماضي الآباء والأجداد”.
بين يدي البوسندة
ومن أهم الأعمال التي اشتغلها البوسندة المعالم الأثرية في محافظة الأحساء، والتي تتميز بجانب أهميتها التاريخية بجمالها المعماري، ودقة تفاصيلها، مثل قصر إبراهيم ومجسم المدرسة الأميرية في مدينة الهفوف، وسوق القيصرية، ودروازة الكوت التي يعود تاريخ تشييدها إلى فترة الحكم العثماني، وكذلك ميناء العقير التاريخي، وقصر السراج (مقر إمارة الأحساء قديما)، وقصر صاهود الأثري في مدينة المبرز.