“خِشْك” الحاج عون.. قبل التمر والماء…! دخّن "النارجيلة" طفلاً وشاهد مدخنين يُغمى عليهم بعد الإفطار
"النارجيلة" وسيلة تدخين آيلة للانقراض
كتب: حبيب محمود
صور: محمد الخرّاري
فيما راحت دقائق آخر النهار تتباطأ؛ كان “أبو حسن” يراقب “سَجْرة الضَّوْ” التي أمامه. نضج حطب الجمر، وتجهّزت “النارجيلة”، وبدأ رفاق “المغربية” يتجمّعون. لكن الأذان لم يأذن بالإفطار بعدُ. جلس “حجّي عون” على أريكة قديمة يسمّيها أصدقاؤه “عرش بلقيس”، وراح يعُرب عن تأفُّفه من بطء الدقائق الأخيرة. بدأ بعضهم وضوءه استعداداً للصلاة، وهو يراقبهم.. ووسط هذا الانشغال أطلق تعليقاً مفاجئاً أضحك الموجودين: “ما بيأدّنْ إلا بعد الإمساك”…!
89 سنة
قال إن عمره قبل التسعين بسنة.. لكنّ في روحه حياة شابّة، مرحة، ذكية في ابتكار “النكتة”، وتوقيت إطلاقها. تخالطت أصوات الأذان من مدينة القطيف وبلدة الخويلدية وبلدة التوبي، وبدأ الموجودون صلاتهم. لكن “حجّي عون”، بدأ إفطاره بالـ “نارجيلة”. حين أنهى المصلون فرضهم؛ لم يكن الرجل موجوداً على أريكته. إنه يؤدّي صلاته في عريشٍ خاص به، غير مكان وجود الزوار. وُضِع الإفطار، وجاء “أبو حسن” من صومعته. وهنا انكشفت العقود التسعة التي يحملها على ظهر عمره. لا يمكنه الجلوس إلى المائدة مثل الموجودين. جلس إلى “عرش بلقيس”، وجيء إليه بطعامه، ليتناوله أمام “سجرة الضَّوْ” وإلى جانب “النارجيلة” التي “عدّلت مزاجه” تماماً..!
نشأ وسط الدخان
في الـ 89، لكنه يتذكّر الكثير، وبإمكانه وصف الكثير، وسرد الكثير. بدأ التدخين طفلاً. نشأ في أجواء مليئة بالدخان أصلاً. دخان طبخ “السَّلوق”، ودخان تبخير “القروف”.
السَّلوق هو بسر رطب “الخنيزي”. وكانت كمياتٌ هائلة منه تُطبخ في قدور كبيرة، ثم تُجفّف، ثم تُعبأ في أكياس، كلّ منها يستوعب 4 أمنان قطيفية (64 كيلوجرام)، ليتمّ تصديرها إلى الهند. كان “السلوق” سلعة استراتيجية في القطيف، قوامها رطب “الخنيزي”.
أما “القروف” فهي أغلفة العذوق وقت تأبير النخل “التنبيت، التلقيح”. تؤخذ الأغلفة وتُغلى في الماء، ثم يتم تبخير الماء، ويُعبّأُ السائل. تلك كانت صنعة مشهورة في القطيف، لإعداد “سائل لقاح النخيل”، وهو شرابٌ يقوم مقام الشاي، وله نكهة طيبة. وقد انقرضت هذه الصنعة، وباتت محصورة في البحرين في الوقت الراهن.
من باب الصَّرفان
في هذه الأجواء نشأ حجّي عون بن حجّي محمد عبدالنبي. وبدأ تدخين “النارجيلة” في سنًّ مبكّر جداً، أمام نظر والديه. في تلك السنوات لم يكن يُنظر إلى التدخين على أنه شيءٌ ضارٌّ مطلقاً. وفي نخيل “باب الصَّرَفان” عاش 46 سنة فلاحاً محترفاً. مكان النخل في سَيحة الدبيبية، وتحديداً في المكان الذي يقع فيه مستشفى الزهراء الآن. وحالياً يعمل في نخل اسمه “الحميرة” في السَّيحة نفسها، بين مدينة القطيف وبلدة الخويلدية”. وفي النخل عريش مفتوحٌ، مجهّز بأرائك قديمة، وأرضية مفروشة. إنه مكان ضيافة بدائيٌّ، لكن الناس يقصدون “أبو حسن” ليتستأنسوا بحديثه، ويُحيطونه بمودة عفوية.
سَنْوَةْ شِيّابْ
بعد التدخين والإفطار بدا “حجّي عون” في مزاجٍ عالٍ جداً. قال إنه لم يعد يدخن كثيراً كما في السابق. لكنه يحتاج إلى نوعٍ من “السَّنوَهْ”. ويقصد بذلك تلك “الدّوخة” الخفيفة التي يحصل عليها المدخن بعد التوقف طويلاً عن التدخين. هذه “الدوخة” كانت محطّ جدل فقهي طويل في القرون الأخيرة. بعض الفقهاء عاملها معاملة “السُّكر” فحرّم التدخين. وبعضهم ردّ هذا “القياس”؛ فلم يجد مُبرراً فقهياً لتحريم التدخين.
قال “أبو حسن” إنه شاهد رجالاً يقعون “سَنيَانين”، حدّ الإغماء، بعد الإفطار. وقد تطول إغماءتهم لنصف ساعة. كانوا يصومون نهاراتٍ طويلة جداً، ويعملون وهم صائمون، وما إن يؤذن المغرب حتى تكون “النارجيلة” أول ما يفعلونه. ثم يُغمى عليهم لشدة “الدوخة”..!
لكن “أبو حسن” قال إنه لم يسبق أن دخل هذه الحالة مطلقاً. قال “تجيني سَّنْوَهْ وتخليني أهزْ راسي”. وهذا ما كان عليه بعد إفطار الليلة. جلس صامتاً تقريباً، إلا من بعض التعلقيات الضاحكة. حين ضايقته القطط في مدخل العريش؛ خاطب الموجودين قائلاً “كلْ واحدْ منكم يروحْ ياخدْ ويّاهْ سَنُّورْ”. تموجت ضحكات الموجودين، ثم استأنفوا أحاديثهم الجانبية، فيما اقترب بعضهم منه ليسأله عن شؤون النخيل.
كتاب نخيل
هنا؛ ظهر “حجّي عون”، وكأنه واحدٌ من كُتب النخيل التي تسير على قدمين في القطيف. ظهرت في الرجل ملامح الطفل الذي بدأ حياته فلّاحاً ومضت حياته في الفلاحة. ظهرت على لسانه أسماء أصناف النخيل، وأوصافها، وألوانها، وراح يُملي ما يعرفه عمّا بقي منها وما انقرض، دون أن يتحفظ في أسماء بعضها.. حتى في حديثه عن النخيل وزّع “نكاته” الطريفة وأضحك جلساءه.
نسأل الله العلي القدير أن يطيل في عمره في خير وصحة وسعادة
أيام رمضان بالستينات من القرن الميلادي الماضي كنا نعيش في منزل مكون من دور وعشاش وفي رمضان تحديدا كان مؤذن مسجد الشيخ إبراهيم العرفات بالقديح أخي الحاج أحمد بن إبراهيم الحصار أبو إبراهيم من الله بالصحة والعافية وكنت أشاهد الشباب والكبار يجهزون النارجيلة قبل الأذان والكل يستعد فيما يشبه العسكري عندما يأخذ وضع الرمي بالرصاص الحي فيتشبث بالنارجيله يد على القلم وأخرى على البكار أو تداعب الجمر كي لا ينطفي ومع سماع إنطلاق الله أكبر يأخذون شفطة عميقة وعندها يظهر المتدرب من المحترف وينسدح البعض بالدوخة ونهرب نحن الصغار من المكان لنضحك بالخارج خوفا من لشطة العصا
مقالة رائعة! شكرًا للكاتب الرائع والمصور المتألق ?
وأطال الله في عمر العم عون (ابو حسن) عاشق النخلة القطيفية وحامل أسرارها …
رغم وجود بيت طيب له في وسط حي الدبابية غرب حسينية آل مديفع إلا أنّ عشقه للنخلة يشده الى سيحة الدبابية يغازل ما صمد من نخيلاتها ويشارك القُمرية نواحها على ما تبقّى من أطلالها.