[قراءة] “مضراب هريس” أحمد الحسين.. المرأة مدافِعةً عن آخرين
زكريا العباد
صحيح إن القصة ينبغي أن تُقرأ من داخلها، ولكننا هنا نحتاج إلى معلومة بسيطة من خارج القصة لكي تتضح لنا فكرة خطاب القصة فتظهر لنا تقنيات السرد متناسقة ومترابطة، هذه المعلومة هي أن الكاتب الساخر أحمد الحسين مهتم بنقد النسوية في وطننا وأن القصة كتبت في اليوم العالمي للمرأة.
تستند القصة فنيا إلى مجموعة التناظرات والموازنات بين كفتي التناظر: الفولكلور/ الحداثة المستوردة، بطلة القصة مبتعثة لدراسة القانون في الخارج، وفي هذا إشارة إلى المرجعية الغربية، وأزمتها النفسية نشأت من حالة فلكلورية شعبية وهي طبخ الهريس.
لا توضح القصة سبب هذه العقدة ولا تشرحه على المستوى النفسي، وإنما تكتفي بطرحه ووصف مظاهر الأزمة تاركة للقارئ مساحة التأمل والتحليل لأسباب تأزم الفتاة، كل ما تقوله القصة أن فتاة حديثة ترفض فلكلورها الذي رسمه السارد بطريقة فنية تبرز جانب الإبداع لدى الأم التي ترسم ربع دائرة على نغم فلكلوري مألوف على حد تعبير السارد “تيك .. تيك”.
نلاحظ أن القاص أعطى الفتاة صوت السارد في علامة على أنه لا يخاف من إعطاء المرأة المساحة اللازمة للتعبير عن رأيها، يمكننا أيضا ملاحظة وجود خمس نساء في القصة في مقابل وجود رجل واحد وهو الطبيب، مع إشارة سريعة إلى خمسة شباب خطبوا الفتاة وفكت خطبتها منهم لأنهم يضعون صورة الهريس في حساباتهم في إنستغرام ويضعون تحتها “هريسة الوالدة حفظها الله”، في علامة على استمرار الفلكلور عبر الأجيال.
ونلاحظ هنا أن دور هؤلاء الشباب سلبي، فباستثناء اعجابهم بالفلكلور فهم لا يؤدون أي دور آخر في السرد سوى تمثيل التوازن بين كفتي المرأة والرجل، ففي مقابل خمس نساء يوجد طبيب نطق بكلمة واحدة و خمسة رجال للمساهمة في توازن المشهد مع حيوية واضحة في أدوار النساء و إفراد الساردة بالبطولة. والأسماء بغيابها لدى الجميع أيضا تشكل علامة على التوازن والحياد باستثناء اسم الأخت “ساره” في إشارة إلى غلبة جانب السرور على هذا التوازن والانسجام.
هكذا إذا يضع القاص البطلة في موقف حرج فهو يمنحها صوت السارد المشارك في الأحداث ليبدو هو في مظهر الحيادي و يجعلها تروي بنفسها الحكاية لتقول أنها الوحيدة التي ترى أن هذا الفلكلور الذي ينسجم معه الجميع هو أمر فضيع و مرعب، بل أن البطلة تروي كيف أن كل النساء الوارد ذكرهن في القصة- ناهيك عن الرجال- يرين هذا الفلكلور ممتعا باستثنائها هي.
ومما يمكن ملاحظته في عملية التوازن الشكلي والظاهري الدقيق الموازنة في جانب الفنون الإبداعية حيث يناظر موسيقى المضراب وتكتكته موسيقى الأوركسترا، بيد أن الفلكلور ينتصر دائما فيظهر المضراب في خيالات البطلة قائدا لفرقة الأوركسترا. كما يتوزع الوصف على مساحة النص بين جانبين بشكل متساوٍ تقريبا فنصف للبطلة ومخاوفها وقلقها وهربها، ونصف للمضراب وحركاته وقفزاته ومطاردته للبطلة الهاربة منه.
ومما لا يمكن إغفاله توظيف الإرهاب في القصة حيث يبدو أنه مناصر للفلكلور حيث يبدو في المنام ككابوس يتمثل في أرهابيين يعدمون البطلة باستخدام المضراب وفي هذا إشارة واضحة إلى تحالف الموروث من عادات و تقاليد مع الموروث الديني ضد الحداثة المستوردة (دراسة القانون في الخارج).
المفارقة الساخرة أن كل هذه الآراء المعروفة لدينا كانتقادات تتبناها الحركة النسوية في نقد الموروث تنسجها القصة على أنها أمور طبيعية بل محبذة رسم النص تفاعل المجتمع معها بلغة هادئة وسلسة، هذه الأمور التي تعبر عن انسجام المجتمع مع ذاته هي ذاتها التي تشكل بعبعا مخيفا للبطلة، وبهذا ينجح القاص في جعل البطلة شاذة وغريبة عن المشهد معبرة عن فكر غريب لا يتبناه أحد ولا يُؤْمِن به وذلك بعد أن طاردها كابوس الفشل في (امتحان تقبّل الذات) . ليس من الغريب إذا أن تتوهم البطلة المضراب الذي يحتل كل هذه المساحة وهو يعبث بكل برود بكل دفاترها وأورقاها وأقلامها فيترك كل ثقافتها ودراستها قاعا صفصفا، وأن تُولّي -في نهايةالقصة- هاربة كمن رأى ثعباناً لمجرد سماع كلمة (هريس).
نص القصة
مضراب هريس
كانت البداية منذ ثمان سنوات في أول يوم من سنوات ابتعاثي للدراسة. حين وصولي للسكن هاتفت والدتي باتصال مرئي لأطمئنها. أجابت أختي سارة الاتصال عوضاً عن أمي التي كانت مشغولة في إعداد وجبة العشاء. كان منظر أمي من خلال الشاشة هو منظرها المألوف وهي تعد طبق الهريس. تجلس على أرضية المطبخ مشمرة عن ساعديها وتمسك بقدميها قدر الهريس الحار الذي تضعه فوق خيشة أرز والأبخرة تتصاعد منه فيما تراقص بكلتا يديها مضراب الهريس برقصة متناغمة سريعة على شكل ربع دائرة داخل القدر يميناً ويساراً مصدرةً موسيقى فلوكلورية تيك تيك.. تيك تيك.
في تلك الليلة بدأ الكابوس معي. كان شبحاً مرعباً على شكل مضراب هريس. لم يفعل شيئاً سوى تكرار رقصته ونغمته الفلوكلورية كما يفعل تماماً داخل قدر الهريس.
استيقظت مفزوعة في منتصف الليل من هذا الكابوس المرعب ولم استطع النوم مجدداً.
ظل ذات الكابوس يتكرر علي في ليالٍ متفرقة وتزداد وتيرته في ليالي الامتحانات.
ذات ليلة رأيت أن جماعة إهابية اختطفتني وحكمت علي بالإعدام الوحشي بتهمة دراسة القانون الغربي فدقوا عنقي بمضراب هريس.
تطور الوضع يا دكتور في سنتي الدراسية الأخيرة وأصبحت أرى شبح مضراب الهريس في اليقظة ولم يعد مجرد كابوس يأتي في المنام.
في المرة الأولى كنت خارجة من مكتبة الجامعة في ليلة شتوية ممطرة. وحيدة أمشي في ذلك الشارع. أحسست بشيء يتبعني وانتابني شيء من الخوف. التفت خلفي فإذا بشبح مضراب الهريس يمشي خلفي بنفس وتيرة مشيتي وحين توقفتُ توقف مثلي وحين التفتُ التفتَ مثلي. ذعرت منه وصرت أجري هاربةً منه وصار يقفز سريعاً على رجله مثل قفزات الكنغر لاحقاً بي.
أصبحتُ أراه يتجول في غرفتي عابثاً بكتبي وأقلامي ودفاتري بكل برود.
في كل مكان يظهر لي هذا الشبح. حتى عندما نصحتني إحدى الصديقات بالذهاب لدار الأوبرا من أجل الاستماع لاوركسترا كلاسيكية لتهدأ أعصابي وجدت مضراب الهريس هو المايسترو ولم تكن المعزوفة سوي تيك تيك.. تيك تيك…
أنا متعبة جداً يا دكتور من هذا الشبح الذي لا يزال يطاردني فبالأمس فقط انهيتُ خطبتي للمرة الخامسة ولذات السبب. جميعهم يضعون صورة هريسة في انستقراماتهم ويكتبون أسفلها “هريسة الوالدة حفظها الله”.
صوت نغمة الجوال تقطع استرسالها وإنصات الدكتور لسردها.
– لا بأس يا دكتور يمكنك الرد على الاتصال وبعدها أكمل.
على الجهة الأخرى كانت زوجة الدكتور تسأله:
– ماذا تشتهي أن تأكل اليوم على العشاء؟
بهمس خفيف جداً خشية أن تسمعه المريضة أجابها وهو يبتلع لعابه:
– هريسة
الهدوء الشديد الذي يسكن العيادة جعل الدكتور يخفق في تقدير شدة الصوت فوقعت الهريسة كالقنبلة النووية في أذنها.
فرت مذعورة من العيادة وهي تصرخ بشكل هستيري ومضراب الهريس يقفز مثل الكنغر لاحقاً بها.