السيد الخباز ونهاية التاريخ

نضال البيابي

لا يكتب التاريخ المنتصرون وحسب؛ إنما للمغبون سرديته أيضاً، والحقيقة التاريخية بين هذا وذاك ليست إلا صراع التأويلات، فما حدث ليس كما رُوي، وأي رواية فهي ابنة عصرها، أما القراءات المذهبية والأيديولوجية فهي قوى هدم للمسار الزمني في التاريخ.

لأن الطابع الغائي الذي يضفيه المتمذهبون على تاريخهم الخاص ليس إلا افتراضاً قَبْلِيّاً ومن ثم تُنتقى نصوصٌ بعينها لتأييده، كما أن القراءات الحديثة ذات الطابع الإحيائي هي إعادة اختراع للتراث على ضوء مكتسبات علوم ليست من عصرها، أما التاريخ كما هو، الوقائع التاريخية كما حدثت، فهي في مكان آخر لم تمسه يد المذاهب.

في كتابه (العقل في التاريخ) يفحص هيجل عدة مناهج استُخدمت في دراسة التاريخ، منها: “التاريخ الأصلي”، وينتمي هذا النوع من الدراسات التاريخية إلى المؤرخ الذي عاصر الأحداث التي يرويها، وإلى “المطبخ السياسي” الذي تصنع فيه الأحداث وتشكلت في إطاره عقلية أو ثقافة المؤرخ.

فهو ليس مجرد ناقل آلي أو مرآة محايدة تعكس ما ترى، إنما هو مشارك في إعادة إنتاج الوقائع التي تكون مادة تأريخه، وبهذا يكون فكره انعكاساً لروح عصره بصرف النظر عن مدى معقولية مروياته، وحتى عندما يُخضعها للتحليل والتنقيح فإنما يتحدث بلسان عصره دون أن يتجاوزه.

وقد نلاحظ بعض الاختلاقات أو الإضافات أو المبالغات غير المعقولة في تأريخه إلا أن هذا لا يعني أنه ـ كما يقول هيجل ـ  نسق مزيف من الأفكار، لأنه في نهاية المطاف نسخة مصغرة لعادات قومه وأخلاقهم، ومن هنا تكمن أهمية هذه الوثائق التاريخية في المنهج التاريخي الأصلي.

ومن الأمثلة على هذا المنهج من تراثنا العربي والإسلامي: تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير وتاريخ اليعقوبي.

أما المنهج الآخر فهو “التاريخ النظري”، وتتفرع هذه الطريقة النظرية في الكتابة التاريخية عند هيجل إلى أربعة أنواع أساسية:

النوع الأول هو الذي يحاول فيه الباحث أن يستبطن روح العصر الذي يؤرخه، فيروي ما حدث بناءً على ما توافر له من وثائق ومدونات، كما لو أنه عاشها فعلياً غير أنه مهما يكن نزيهاً فإنه ابن عصره وربيب زمانه وبهذا سيتعسف من حيث لا يدري في إسقاط روح عصره على العصور الغابرة، وبالتالي ستبدو الروايات التاريخية التي يرويها أقرب لروح عصره أكثر من العصر الذي يؤرخ له، مثلاً كما تحول أبو ذر الغفاري في القراءات التي وجدت بذوراً شيوعية في الإسلام المبكر إلى ماركسي معاصر.

أما النوع الثاني فيطلق عليه هيجل اسم التاريخ العملي أو البرجماتي الذي يتوخى استخلاص العبر والعظات والمبادئ والقيم الأخلاقية، ولعل ابن خلدون هو مثال بارز لهذا النوع من التأريخ، غير أن التاريخ لا يعيد نفسه فلكل عصر ظروفه الخاصة، ولذا ليس من المجدي الحكم على الحاضر بدروس مستخلصة من أحداث الماضي، لأن ما نتعلمه من الخبرة والتاريخ هو كما يقول هيجل “أن الشعوب والحكومات لا تتعلم شيئاً قط من التاريخ، ولا تتصرف أبداً وفقاً للمبادئ المستنبطة منه”.

النوع الثالث هو “التاريخ النقدي”، حيث ينصب اهتمام الباحث على دراسة حقيقة ومعقولية الروايات المنقولة من قبل مجموعة مختلفة من المؤرخين ومن ثم يقارن بين هو كائن وما ينبغي أن يكون وبحسب ذكائه وخبرته فإنه قد ينتزع أشياء لم يفصَح عنها في الخطابات الرسمية أو في تلك الوثائق المدونة.

المفكر العراقي هادي العلوي له محاولات نقدية تتسق مع هذا المنهج، وإن حمل بعض النصوص التاريخية أكثر مما تحتمل.. مثلاً في كتابه “تاريخ التعذيب في الإسلام” إلا أن له إضاءات تأريخية نقدية تستحق الثناء والإعجاب، سيما في كتابه” فصول من تاريخ الإسلام السياسي”.

غير أن ما يؤخذ على هذا المنهج ـ بحسب هيجل ـ أنه يمكن أن تعامل بعض المقولات النقدية بوصفها حقائق تاريخية أو قد يستخدم “النقد التاريخي” كذريعة لتشويه الوقائع التاريخية فتكون الاستنتاجات بوحي من خيال أو رغبات الباحث نفسه، وبهذا تتحول الخيالات الذاتية إلى معطيات تاريخية، خصوصاً حينما يكون الباحث ابناً باراً للمؤسسة الرسمية، سواء أكانت سياسية أو كهنوتية، كما سنلاحظ مثلاً في خطاب السيد منير الخباز.

أما النوع الرابع والأخير من التاريخ النظري فهو الذي يبحث عن تلك الفكرة المباطِنة التي تنمو وتتطور طوال العصور التاريخية المختلفة، وهذا أقرب إلى التأريخ الفلسفي، فهو ـ كما يحلو لهيجل ـ وصفه بأنه دراسة للتاريخ من خلال الفكر، أي أنه يفسر التاريخ بوصفه تجلياً لحركة “الروح” أو الإرادة العقلية في تاريخ العالم.

بيد أن “الإرادة العقلية” في خطاب السيد منير الخباز لا تتجلى إلا عبر “وسائط الفيض” لقصور في القابل طبعاً لا في الفاعل، وهذه الوسائط يخضع لها التاريخ ويتحرك بوحي منها، إلا أنها تبدو غير عاقلة ومتحيزة بمعنى ما، لكنها على الرغم من ذلك فهي صادقة صدقاً قبلياً كمبدأ ميتافيزيقي غير قابل للتكذيب، كما هو مجمل “الحقائق” في خطابه، من استيهامات “الزمن الملكوتي” حيث لا تاريخ، و”فلسفة البكاء الهادف” باعتباره ظاهرة حضارية ودليلاً على الصحة النفسية إلى “الحقيقة المهدوية” التي فيها تتسق غائية التاريخ مع “حاجة البشرية للتراكمية الثقافية”.

أي مزج فريد بين صلابة المطلق وسيولة النسبي، فعصر الظهور وإن حُدِّد قَبْلِيّاً كانتصار للعقل الخلاق في التاريخ إلا أنه ـ في الوقت نفسه ـ نتيجة للتراكم المعرفي، وبهذا تكون “الدولة المهدوية” في آخر الزمان لأنها تحتاج إلى “مستوى ثقافي وحضاري لا تملكه البشرية حتى الآن”، أي نهاية التاريخ حيث الجوع والخوف وغياب الأمن كما يقول الخباز مُبشراً، وعلى هذا النحو فإن الهوة الفاصلة بين الأنا الأعلى والواقع تزداد اتساعاً وكلما شعر الفرد بدونيّته وانحطاط قدره ازداد مثله الأعلى علواً وعظمة.

هكذا تصبح “الإرادة العقلية” في خطاب الخباز مستقلة عن حركة التاريخ ودافعة له في آن، محاكاة لهيجل في جانب؛ وإعادة إنتاجه بنفحة مذهبية في جانب آخر.

غير أنك مضطر إلى أن تتخيل هيجل بعمامة حتى يتسق الخطاب، إذ تبدو “الإرادة العقلية” كمبدأ كلي كامن حتى في الأهداف الجزئية للأفراد، فالوجود العارض في خدمة الوجود الماهوي، كضرورة تاريخية في تطور “الوعي المهدوي” وتمهيد لتلك الدولة الأفلاطونية التي ستشهد “أرقى حضارة تكنولوجية عرفتها البشرية على الإطلاق بل هي الحضارة التي ينشدها الإنسان منذ آلاف السنين” كما يقول الخباز منتشياً، حضارة اكتشاف “أسرار الكون” و معرفة “فقه التسبيح”، وهذا هو المضمون الوحيد لحركة التاريخ.

فلم يعد التاريخ صراعاً من أجل الحرية، أو صراعاً من أجل الاعتراف والتقدير، ولا تقدماً أو طريقاً مؤدياً إلى العقل، ولا نمواً للمعرفة العلمية، إنما هو تمهيد لنهاية التاريخ فظهور “القائد المنتظر” حيث سيسبق ظهوره انفجار”ثورة أممّية شعوبية” متسقة طبعاً مع “السنن التاريخية” التي أثبتها “الفلاسفة” مثل ” اينشتاين وراسل وبرنارد شو” على حد قول الخباز(وجمع هؤلاء الثلاثة من حقول معرفية مختلفة في سياق الحديث عن “السنن التاريخية” لهو أمر مبتكر يُحسب للخباز ولم يُسبق إليه)!

الكل ضحايا للإرادة العقلية أو قل هم مجرد أدوات للتقدم التاريخي، وهذا هو “دهاء التاريخ” إذ يهلك الأفراد وتنتصر الفكرة، وكم من فرد لم يكن سوى وسيلة لفكرة أنا أعلى، وبهذا فإن “أجمل التاريخ كان غداً”!

الفقيه مثلنا نحن البشر الفانين، قد ينطق عن الهوى أو الجهل، وبما أنه “فقيه” فلا يسعه أن يتبنى كل ما هو تاريخي وإلا انتهى دوره، ولهذا هو يُخضع المسارات التاريخية إلى مقولاته القَبْلِيّة، كما أنه لا يرى الواقع إلا عبر هذه الوسائط وحدها، وما دامت النتيجة بحسب هذا المنطق ليست سوى صيغة أخرى للمقدمات، فإنه سيجد في كل ظاهرة بشرية دليلاً على أصالة معتقداته ومقولاته، وإذا كان تاريخ الشيء هو وحده الذي يفسر حقيقته فإن مهمة الفكر هي الكشف عما تكونه الأشياء في ذاتها خصوصاً أن مظاهر القداسة تخفيها.

وعلى عكس السيد الخباز يمكن اعتبار فؤاد الخولي مؤلف (إمامة الشهيد وإمامة البطل) مثالاً مناسباً لوضوح المنهج، والذي كان انثروبولوجياً يدرس تاريخاً معيناً في المجتمع لا تاريخاً اجتماعياً، فمثلاً ثورة الحسين أو واقعة كربلاء، قد تُبحث من زاوية التاريخ الاجتماعي فيركز حينئذ على بروز العصبية الأموية في دمشق، وكذلك انتقال الحركة التجارية من الحجاز وجنوبي العراق إلى دمشق، وترسيخ مفهوم الملك كبديل عن مفهوم الخلافة في الحكم… وقد تُدرس واقعة كربلاء من زاوية “التاريخ في المجتمع”، فيُركز الخولي على معناها الاجتماعي في “بلورة الشخصية الدينية لدى الشيعة وبالتالي يسقط عنصرا الزمان والمكان وتصبح ثورة الحسين التاريخية “عاشوراء” يحتفى بذكراها سنة بعد سنة، كأداة تنظيمية تُفعل باستمرار في نسيج المجتمع الشيعي”.

كما أن لها دلالات اجتماعية تتشابك مع معانيها الدينية، فهي رهينة بتغير الظروف الاجتماعية، الأوضاع الاقتصادية والسياسية، بمعنى أن الفعاليات والطقوس العاشورائية تزداد حدّة وزخماً شعبياً كلما تأزمت الأوضاع السياسية والاقتصادية في المجتمعات الشيعية، والمرجعيات الدينية ليست بمنأى عن ذلك، كما أن الخطاب المنبري أكان “حداثياً” أو تقليدياً لا يولد في فراغ تاريخي، وبالتالي لا يمكن عزله عن الثقافة الأصلية التي تشكل من خلالها وفي أجوائها كحاجة نفسية – اجتماعية.

غير أن تحول هذه “الحاجة” إلى كيان ثابت في النسيج الاجتماعي ومستقل عن الوعي يشي بأن عملية التطور التاريخي قد انقطعت في مرحلة ما، أو أن الإرادة العقلية الدافعة لحركة التاريخ قد تخلت عن دورها منذ زمن بعيد

‫3 تعليقات

  1. أحسنت نضال. مقال جيد، مع الإشارة إلى نزر يسير من إبهام شابه. كل ظاهرة في العالم الطبيعي أو العضوي، هي عبارة عن تأويلات وصراع تأويلات كما نبه إليها نيتشة، ولا يجب أن ننسى الدور الخطير الذي تمارسه السلطة في تشكيل المعرفة ومن هذا المنطلق، لا تأويل بريء كل البراءة من براثن السلطة.

  2. يقول أديب ألمانيا الكبير إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا فلماذا نقرأ إذن؟ نحن محتاجين إلى مقالات تكسر التابوهات وتروحن الديني بفصله عن الدنيوي وعن انتهازية الإسلاميين الذين حولوا الدين والتشيع إلى سيارة إسعاف!!!!
    كيف للمرفه والبرجوازي أن يتحدث عن ا الزهد وخبز الفقراء وطبقة الهامش ؟؟ وعتبي على الكاتب رغم محاولته النقدية الجيدة وهو ابن الأجواء الحوزوية انه أرغم قلمه على أن يكون ناعما على غير عادته لحاجة في نفس يعقوب!!!

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×