سؤال القبر أو البرزخ

الشيخ علي الفرج

 

فكرة الحياة في البرزخ وسؤال القبر من الأمور القرآنية والروايات المسلّم بها من علماء الشيعة والسنة، واعترض بعض الباحثين على هذا القول، وشككوا في فهم الآيات القرآنية بأنّها لا تفيد حقيقة البرزخ بشكل صريح، وعليه انقسم العلماء إلى فريقين: فريق مؤيّد تماماً، وآخر رافض للفكرة كلّ الرفض.

ونحن – هنا- نطرح القسم الثالث، الذي نطمئنّ له، مع احترامنا لمن أيّد ومَنْ رفض، ولعلّه يكون الطرح الأنسب، وهو: أنّ المؤمن الذي لا ذنب له يُنعّم في البرزخ، والكافر الذين لا حسنة له يُعذّب في البرزخ، وأما من اختلطت عنده الحسنات والسيئات معاً فلا يُسأل في قبره، وإنّما يحاسب يوم القيامة، إن شاء الباري أن يعذّب وإن لم يشأ لم يعذّب، فالموت في قبر هذا القسم كالنوم الطويل، وإن كان لا يشعر بطول الموت في الحقيقة، كما سنبيّن.

والأدلة على هذه الدعاوى الثلاث في القرآن:

(1) المؤمن الذي لا توجد سيئات في صحيفته:قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلوا في سبيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169-170]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154].

واضح من الآيتين السابقتين وصف الموتى المقتولين في سبيل الله بأنّهم أحياء ومنعّمون في البرزخ، ويُفهم أيضاً أنّ غيرهم أو بعضهم لا يشعرون بالحياة في البرزخ، مع علمنا أنّ النبي (ع) وأهل بيته (ع) هم أكثر وأشدّ حياة في برزخهم ممن قتل في سبيل الله، كيف ونحن نعلم بأننا إذا قلنا في صلاتنا (السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته)، يردّ على سلامنا وإلّا كان السلام على النبي لغواً، والتفصيل في مكانه.

(2) الكافر الذي لا توجد حسنات في صحيفته: إما لأنه لم يفعل خيراً، أو حبطت أعمال الخير بقتل النفس أو الإفساد في الأرض: ﴿فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 45-46].

يُفهم من السّياق أنّ آل فرعون يُعذّبون مرتين بنارين، كما أنّ تعبير بالغدوِّ والعشيّ لا يتناسب مع يوم القيامة الذي عطّلت فيه قوانين الدنيا.

 (3) الذين يوجد في صحيفتهم حسنات وسيئات: وهم أكثر الناس باختلاف المذاهب والديانات والفِرَق: قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الروم: 55-56]، وهذا دليل على أنّ الكافرين شعروا أنّ حياتهم في الدنيا والبرزخ تساوي ساعة من النهار، فلو كانوا يُعذّبون في البرزخ لأحسّوا بثقل العذاب وطوله، ولكنّهم كانوا في سُبات فلم يشعروا أكثر من ساعة.

ويؤيد هذا القسم الثالث هذه الآيات المحتملة:

ـ قال تعالى (يوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) [طه: 102-104].

ـ وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [يونس: 45].

ـ وقال تعالى: (إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 111-115].

ـ وقال تعالى: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 107].

وأما الدليل في روايات أهل البيت (ع) فهو صريح في أنّ الفئات ثلاث، كما بيّنتها، صحيحة محمد بن مسلم قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): “لا يُسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً”. [الكافي، الشيخ الكليني، ج3 ص236].

ـ عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: “أصلحك الله، من المسؤولون في قبورهم؟ قال: من محض الإيمان ومن محض الكفر، قال: قلت: فبقية هذا الخلق؟ قال: يلهون والله عنهم، ما يعبأ بهم”. [الكافي، الشيخ الكليني، ج3 ص237].

وأيضاً عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): “لا يُسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً والآخرون يلهون عنهم…”، [الكافي، الشيخ الكليني، ج3 ص235].

ـ وعن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: “إنّما يُسأل في قبره من محض الإيمان محضاً والكفر محضاً، وأما ما سوى ذلك فيلهى عنهم”. [الكافي، الشيخ الكليني، ج3 ص235].

ـ كذلك عن ابن بكير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: “إنّما يُسأل في قبره من محض الإيمان محضاً والكفر محضاً، وأما ما سوى ذلك فيلهى عنه. [الكافي، الشيخ الكليني، ج3 ص235].

وإن كانت الرواية الأولى صحيحة السند لا غير، والروايات الأربع ضعيفة، لكنّها قرينة واضحة على صدور هذا المعنى عن أهل البيت (ع) لاحتفاف بعضها ببعض، وتؤيّدها في البداية شاهد كبير وهو آيات القرآن الكريم التي ذكرناها.

ومعنى هذه الروايات يتوقف على معنى (محض الإيمان) و(محض الكفر)، ويحتمل أحد المعنيين:

1- المحض هو الشيء الخالص النقي، والإيمان المحض هو معرفة الله بالوحدانية، والنبي محمد (ص) بالرسالة، والإمام (ع) بالولاية.

والكفر المحض هو الجحود بوجود الله وتوحيده، أو نبوة النبي (ص) أو ولاية الإمام (ع)، فيكون من يلهى عنه هو المستضعف من لم يؤمن بولاية الأئمة (ع) ولم ينكرهم جحوداً، وهذا المعنى هو التركيز على العقائد.

2- لكنّ هذا المعنى هو التركيز في الإيمان المحض على العمل الحسن النقي، والكفر المحض هو العمل السيئ الخالص، ويكون المعنى بمعنى آخر، المؤمن الذي لا توجد سيئة لديه، والكافر الذي لا توجد حسنة لديه، والإيمان مقابل الكفر هو المصطلح القرآني كقوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29].

وليس هذا مصطلح الأئمة (ع) الإيمان في مقابل الإسلام، يعني هو الاعتقاد الصحيح الكامل بولاية الأئمة (ع)، والإسلام هو الاعتقاد الناقص بعدم الاعتقاد بالولاية – ويكون من يلهى عنه من اختلطت حسناته بسيئاته، وهذا القسم هم أكثر الناس شيعة وسنة، وهذا القسم أقرب للواقع وهو الانسجام مع القرآن الكريم.

موعظة عظيمة

يحتمل الإنسان في الواقع والوجدان أنّ وقت موته بعد لحظات أو بعد ساعات أو فترة من القلائل، ثم يتحول إلى ركود عميق لا يشعر به، ويتحلل جسده إلى أن ينفني، ويقوم قيام الساعة ولم يشعر بفترة هذا البحر البرزخي شيئاً، فكأنّما من موته إلى قيامه بغته، أي مقدار ساعة أو دقائق، وهذه الآيات الشريفة تفتح لنا معلومة تكون موعظة عظيمة، قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 107]، وكذلك الرواية الصحيحة السابقة، ونسمع في حديث مؤثر هو (من مات فقد قامت قيامته) [بحار الأنوار، المجلسي، ج58 ص7]، ومن المحتمل أنّ القيامة المقصودة هي القيامة الصغرى، وهي الموت، ولكن من المحتمل أيضاً أن تكون القيامة الكبرى.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com