قينان الغامدي راثياً: لن يغادرني وجع فقد صديقي عبدالله مناع
قينان الغامدي
((لن يكفيني دمع، ولن يغادرني وجع فقد صديقي عبدالله مناع)).
كان لي مع الصديق الكبير الأديب والمفكر والصحفي والكاتب عبدالله مناع موعد أسبوعي ثابت كل يوم إثنين طيلة عام 2020 الماضي في مكتبته العامرة بمنزله. كنا قبل ذلك مجموعة من أصدقائة ومحبيه نلتقي معه مساء كل يوم أحد في أحد مقاهي شارع صاري بجدة، وكان هذا اللقاء شبه ندوة مكتنزة بمعارف المناع وثقافته الواسعة ، وخبرته في شتى شؤون الحياة ، والأدب والفن والتاريخ والسياسة. وكان الدكتور مناع – رحمه الله – يطوف بنا في آفاق هذه المعارف والفنون المتعددة، تدعمه ذاكرة حديدية لا يفوت عليها تاريخ الوقائع والأحداث الجسام، سواء في تاريخ الوطن الذي كان يعشق ذرات ترابه وناسه ، ويتحدث عنه بمزاج رائق ممزوجا بفخر واعتزاز بارزين مستعرضا مراحل التأسيس وما شهدته المملكة من تطورات وقفزات في شتى مجالاتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، مسشهدا بمحاضراته العديدة التي ألقاها في مختلف مناطق المملكة وعلى مختلف منابرها ، ومقالاته التي وصف فيها رحلاته الى تلك المدن والمناطق.
فإذا انتقل الى أحداث الوطن العربي والعالم وآدابه وفنونه ، وتاريخه ، وسياساته ، فإننا نجد أنفسنا أمام موسوعة زاخرة بالمعرفة والقصص الواقعيه التي استقاها الدكتور مناع من قراءاته الواسعة ، ورصده الدقيق ، ومتابعته لوسائل الإعلام العربية والعالمية التي كان لا يفوته شيئا منها ، يسعفه في ذلك قدراته المذهلة في اللغتين العربية والإنجليزية.
والحديث يطول كثيرا عن هذه ( الأحدية ) التي أسسها المناع ودعانا اليها منذ نحو عشر سنوات ، لم تتوقف مطلقا كل أسبوع إلا في إجازته السنوية التي غالبا تكون في شهر أغسطس من كل عام حيث يغادر بأسرته الى سويسرا ، حيث يملك هناك شقة صغيرة جدا أخذها منذ عقد تقريبا بالتقسيط المريح !!
في لقائنا الأسبوعي ( هو وأنا فقط ) كنت أستعد من جانبي ببعض الأسئلة الثقافية أو التاريخية لأفتتح بها تدفقه في الحديث الذي لا يمل مطلقا ، وكنت على مدى ساعتين ونصف (مدة اللقاء الأسبوعي هذا) أشعر أنني أقرأ عدة كتب متنوعة في وقت واحد، بل إنني كنت أكتفي بوصفه وحديثه عن أي كتاب لم أقرأه سابقا، حيث يعطيني ملخصا دقيقا ووافيا عن الكتاب ومؤلفه وسنة صدوره والجهة التي أصدرته ، والكتب الأخرى لهذا المؤلف أو ذاك ، بل ويضيف كيف حصل عليه ومن أين اقتناه وكم مرة قرأه ، إذ أن لكل كتاب مهم قصة عند المناع ، فكتبه ليست مجرد ورق وحبر وأغلفه ، ولكنها مؤنسنة لدرجة أنني قلت له ذات لقاء ، وأنا أشير الى أرفف المكتبة التي تضم بضعة الاف كتاب ، قلت : هذه الكتب يادكتور أناس يحدثونك وتحدثهم كلما جئت الى المكتبتك ، فقال : صحيح ، ويؤنسون وحشتي، ويملأون وحدتي صخبا وحياة وعوالم مبهجة ، ثم جال بنظره في المكتبة ، وتنهد قائلا: هؤلاء البشر في هذه الأرفف هم أكثر من يشعر بغيابي عنهم حين أسافر ، وهم الذين سيبكون بحزن عميق على فراقي الأبدي حين أموت!
رحم الله الدكتور عبدالله مناع فقد كان إنسانا راقيا في حديثه وسلوكه، بكل ماتعنيه الإنسانية والرقي من اتساع وعمق وسمو ، وكان شخصا واحدا بوجه واحد في فكره وآرائه وإنسانيته، لا يتلون ولا حتى يتجمل، فصراحته ووضوحه وصدقه هي عنوان شخصيته الفذة ونادرة الوجود لدرجة التفرد، حيث لم أعرف أحدا بقيمته العظيمة وقامته الكبرى، بمثل ماهو عليه من صدق ووضوح في كتاباته وحديثه ومجالسه ومع أصدقائه ومعارفه .
في الشهرين الأخيرين لاحظت أن سمع صديقي ثقل ، ونظره ضعف ، فكنت أحثه أن يراجع طبيبه، وكان يستثقل حديثي في هذا الأمر ، ويذهب للحديث في موضوع آخر لكراهته أن أستمر في حديث الصحة والطبيب ، وكنت أحاول بعد ذلك أن أتحدث الى زوجته لعلها تنجح في إقناعه بالذهاب الى العيادة ، وكانت تنجح حينا ، وتخفق أكثر الأحيان ، نظرا لموقفه العصي على مراجعة المستشفيات ، وإحساسه الخاص أنه لايحتاج ذلك ، ودائما يقول لي: مسألة بسيطة فلا تهول الأمور ياقينان !!.
في آخر يوم اثنين التقيته (21/ديسمبر/2020 )كان متعبا بوضوح ، وقبل أن أجلس ، وليقطع علي طريق السؤال عن الصحة وشؤونها ، قال لي: خلاص ياباشا حددنا موعد في المستشفى يوم الإثنين القادم.
فقلت: ممتاز ، لكن لماذا لا تقرب الموعد !؟ فالتفت نحو باب المكتبه الداخلي ، وقال : تفضل اطلب قهوتك من حميدة !!!
الإثنين الذي بعده 28/12/2020 ، تحدثت اليه هاتفيا الليلة السابقة كالمعتاد ، (بينه وبيني موعد مقدس للإتصال الهاتفي ، يوم بعد يوم ، الثامنة مساء) لأؤكد له موعدنا المعتاد، ولأطمئن أنه سيذهب الى موعده في المستشفى، فقال: نعم سأذهب وحين نلتقي في موعدنا سأخبرك بالنتائج!!!
ذهب الى موعده ، ولم أره منذ ذلك اليوم ، فقد دخل فورا الى العناية الفائقة ، ولم يخرج ، وكنت يوميا أطمئن على حالته من خلال الإتصال الهاتفي بالصديق الكاتب المتميز ( الأستاذ نجيب يماني – مدير العلاقات العامة بالمستشفى التخصصي بجدة) ، أو من خلال زوجته.
ومساء السبت 23 يناير ، اتصلت مرة أخرى بإبنه الأكبر عمرو فأبلغني بالنبأ المؤسف قال : ياعمي الوالد توفى منذ عشرين دقيقة ، فغامت أعيني ، وشعرت أن الأرض تميد من تحت قدمي ، وأغلقت الهاتف دون أن أتمكن من تعزيته !!
كثر هم الذين يستحقون أن أعزيهم في فقده الموجع الأليم ، وفي مقدمتهم رفيقة دربه الأخت الأستاذة هدى أبو زنادة ، ومهجته وروحه وحبيبته ابنته الكبرى (سجا) ، وشقيقتها سندس وشقيقاها عمرو وهشام ، والعزاء موصول الى أصدقائه ومحبيه الكثر في المملكة والوطن العربي والعالم .
أما أنا فلن يكفيني دمع بقية عمري ، ولن يغادرني وجع فقده وألم فراقه طيلة حياتي ، فهو كان صديقي الأعز وأخي الأثير وأستاذي العظيم ، رحمه الله وجعله مع الشهداء والصالحين في عليين.
———
تنويه: تلقت “صُبرة” المقالة من الأستاذ قينان الغامدي مباشرة وشخصياً، ونُشرت بإذنه.
اقرأ أيضاً
رحمك الله أبا عمرو رحمة واسعة لقد كنت لي نعم الزميل والصديق والأخ ولا أنسى فضلك في تشجيعي وتوجيهي خلال فترة عملي معك في مجلة إقرأ .
عزائي لذويه وحبسه وفاقديه .
..
رحم الله رجلاً عرفته من خلال عملي معه في مجلة إقرأ بأنه حسن الخُلُق ذو روح مرحة جاد في عمله محباً لزملائه مسدياً لهم توجيهاته الهادفة والمشجعة لهم .
ولا أنسى فضله علي في تقديم النصح والإرشاد والتوجيهات التي من شأنها تحقيق النجاح في العمل الصحفي .
في كتابي الذي اقترح اسمه بأن يكون ” لواذع فكاهية ” والذي لم يطبع الى الآن لظروف خاصة ، تم الإتفاق على أن تكون مقدمته من إبداع أنامله .
رحمك الله أبا عمرو رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته .
عزائي لذويه ومحبيه وفاقديه
..