راشد الغانم.. استورد الكتب من البحرين.. وحارب الأمية في القلعة ابن مدير المالية تعلّم في بغداد.. ووضع أسئلة اختبارات السعوديين.. ودفع المال مقابل الشعر
القطيف: ليلى العوامي
راشد بن عبدالله بن راشد الغانم، قصة عمرها يربو على قرن، الطفل الذي ولد عام 1338هـ، في بيت جده لأمه الحاج عبدالله اليوسف العطار بفي حي الزريب في قلعة القطيف، شغفه العلم صبياً، فبحث عنه بتشجيع من أخيه خارج الحدود، حين كان السفر مشقة وصعوبة بالغة.
وحين حصل على قدر منه أبى الا أنه يقدمه لأبناء مجتمعه، من خلال دروس مجانية تطوعية كان يقدمها في منزله بالقلعة.
ينتمي الغانم إلى أسرة تنحدر من نجد، وتنتشر في البكيرية، المجمعة، جلاجل، الرياض، الأحساء، القطيف، الكويت، قطر، البحرين، الإمارات، وكذلك العراق، وتتصاهر هذه الأسرة مع الكثير من الأسر القطيفية، وهم أخوال للكثير من هذه الأسر.
«صُبرة» رصدت محطات من تاريخ الغانم، من لسان ابنه البكر عادل.
الأب ثقة الملك المؤسس
قبل أن يكمل راشد الغانم عامه الثاني فقد أمه، فتولّت جدته لأمه مدينة بنت إبراهيم بن على الغانم العناية به، لكنها لم تعش طويلاً، فتلتها امرأة تدعى الحباسة (يُعتقد أنها من بيت الحباس)، أمر رعايته، وكان يدعوها أمه.
والده الحاج عبدالله الغانم كان مقدراً في مجتمعه، ومن الوجهاء، وهو أول رئيس مجلس بلدي عندما كان الشاعر الكويتي خالد الفرج رئيساً للبلدية، وقد طلب منه الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود (طيب الله ثراه)، استلام بيت المال بعد وفاة الحاج علي الفارس، إلا أنه أرسل رسالة اعتذار للملك عبدالعزيز، ولكنه تسلم المنصب لاحقاً.
عبدالرحمن بن سويلم ـ الثاث من اليمين ـ صفحة الماضي الجميل
ولأنه كان موضع ثقة الملك عبدالعزيز، طلب من أمير القطيف آنذاك عبدالرحمن بن سويلم، ومن بعده ابنه محمد بن سويلم، أن يتخذوا الحاج عبد الله بن راشد مستشاراً لهما، وأن يرجعوا له في كل أمر يستعصي حله، لما له من عقل راجح وخبرة وكياسة.
الحاج عبدالله الغانم والد راشد في بومبي عام 1347هـ.
إلى العراق طلباً للعلم
عند بلوغ راشد الغانم الحادية عشر توفي والده عام 1349هـ، في العام ذاته قرر أخوه الحاج حسن، أن يرسله إلى البحرين، ليتعلم فيها.
عند وصوله إلى البحرين صادف وجود الحاج عبدالله بن منصور اخوان (ابن خالة راشد) مع عائلته، ينتظرون وصول باخرة “كلكتا” الهندية، التي كانت تأتي مرة كل شهر، وتأخذ المسافرين إلى ميناء أم قصر في البصرة جنوب العراق.
فلما علم الحاج أخوان بالهدف من وجود راشد في البحرين، شجعه على الذهاب معه إلى العراق، حيث المدارس التي تمنح الشهادات الرسمية، وتؤهل الطالب للالتحاق في الجامعة. وبعد موافقة أخيه الحاج حسن؛ ذهب إلى العراق، وكان برفقتهم كذلك عبدالكريم بن علي بن محمد بن صالح السنان.
عند وصولهم؛ اصطحب الحاج عبدالله أخوان، الغانم والسنان إلى مدرسة الأنباريين الابتدائية في الكاظمية، إلا أن مدير المدرسة رفض قبول راشد لتعديه السن القانوني (ألاَّ يتجاوز عمر الطالب عند الالتحاق في المدرسة سبع سنوات)، فيما قبلَ تسجيل السنان الذي كان عمره سبع سنوات.
بعد إلحاج الحاج أخوان، على مدير المدرسة، وإخباره بأنه هو الذي شجع راشد على المجيء إلى العراق للدراسة، وألاَّ يُضيع عليه هذه الفرصة، ومن حسن الطالع كان الحاج عبدالله على معرفة كبيرة بالمدير، فعندها اقترح المدير أن يعمل لراشد اختبار تحديد مستوى، فإن اجتازه فسيسجله في الصفوف العليا، فاستحسن الفكرة.
خضع الغانم لاختبار تحديد المستوى، واقتنع المدير بان الصف الثالث هو مستواه، فعند ذلك طلب المدير من الوكيل تسجيله في الصف الثالث الابتدائي.
بعد الابتدائية درس في مدرسة الكرخ، وكان طوال دراسته يعمل بعد الظهر مع رفيقه عبدالكريم السنان، ليعينهما هذا العمل على متطلبات المعيشة.
كون الشابان القطيفيان صداقة مع بعض زملائهما العراقيين، ومنهم: قاسم الباججي، رضا وعبدالباقي الجواهري، مهدي كبة، جواد أبو التمن وحسن الجبوري.
العودة إلى الوطن
بعد 19 سنة وأشهر رجع راشد الغانم إلى الوطن، لكنه لم يكمل دراسته الجامعية على غرار زميله السنان، الذي حصل على الليسانس والماجستير في المحاماة من الجامعة في بغداد، وعمل بعد تخرجه في العراق، وتزوج ولم يعد حتى توفاه الله.
أما راشد فتزوج من الحاجة بدرية بنت منصور بن عبدالله العلوان، وتحول حفله زفافه إلى حفل خطابي يقام بمناسبة زواج في القطيف، حيث تعاقب شعراء وأدباء في هذا الحفل، بقصائدهم وكلماتهم.
أثمر هذا الزواج عن ثلاثة من الأبناء: عادل، كمال وعبدالله، إضافة إلى خمس من البنات.
الغانم في بغداد عام 1948 في السنة التي عاد فيها إلى المملكة.
من «أرامكو» إلى البلدية
فور عودته إلى أرض الوطن؛ التحق الغانم بشركة أرامكو، عُيّن مباشرة في قسم المحاسبة. كان يتقاضى راتباً جيداً جداً مقارنة بزملائه، رغم ذلك لم يتحمل طبيعة الحياة في الظهران آنذاك، فاستقال وتوظف في بلدية القطيف.
دروس القلعة
أثناء عمله في البلدية؛ أعلن عن استعداده لتدريس من يرغب في الدراسة بعد الظهر، بطريقة مغايرة للنظام المتبع حينها، على أيدي المطاوعة أو الشيوخ الذي يسمى «المعلمّ»، استجاب له مبدئياً 18 شخصاً.
بدأ الغانم يُدرسهم وفقاً للمنهج المصري، الذي كان موجوداً في مكتبات البحرين، إذ طلب من النوخذة الحاج سلمان بن جاسم (رحمه الله)، أن يحضر له من هناك الكتب مع أقلام ودفاتر.
صنف راشد طلابه إلى ثلاثة أقسام: ألف، باء وجيم، وهذا التقسيم جاء إثر امتحان شفهي أجراه لكل طالب. فبدأ تدريسهم في إحدى خلوات بيته بخان القلعة.
قسم «ألف» للطلاب الذين لم يسبق لهم الدراسة مُطلقاً، وكان عددهم خمسة، وبدأ بتعليمهم الحروف الهجائية، وكيفية نطقها، ولكن لم يستمر معه إلا ثلاثة. وكان وقتهم من الساعة الثانية عربي بعد الظهر، ولمدة ساعة ونصف الساعة، لمدة ثلاثة أيام أسبوعياً.
أما قسم «باء» فللذين درسوا بعض الشيء، وكان عددهم خمسة كذلك، وبدأ معهم بالقراءة والكتابة، خصوصاً الإملاء، وكان وقتهم من الثالثة والنصف بعد الظهر، ولمدة ساعة ونصف الساعة.
قسم «جيم» للطلاب الذين يجيدون القراءة، وكان عددهم ثمانية، وبدأ بتعليمهم قواعد اللغة العربية مع الإملاء، وكذلك الحساب. ووقتهم كان من الرابعة والنصف. وقسم وقتهم إلى فترتين، الأولى للقواعد والإملاء، والثانية للحساب.
المرحوم فارس محمد صالح الفارس، كان من طلاب الغانم المجدين، وساعده لاحقاً في التدريس. استمر مع طلابه مدة لا بأس بها، واستفادوا من دروسه الكثير، حتى أن بعضهم استطاع أن يلتحق في وظائف حكومية، أو «أرامكو».
بيت الغانم الذي كان يدرس فيه طلابه بالقلعة.
أول مدرسة حكومية في القطيف
عند افتتاح أول مدرسة حكومية في القطيف، وكانت في عمارة الحاج محمد صالح النهاش (رحمه الله) في الجبلة، طُلب من الغانم العمل بها مدرساً، وكان مديرها حينها المربي سيد رضوان، الذي لا يجزم الحاج عادل الغانم بهويته، هل هو مصري، أم حجازي، لكنه يرجح أنه «مصري عاش في الحجاز، وعينته إدارة المعارف مديراً لأول مدرسة في القطيف».
بالفعل؛ عمل راشد الغانم لفترة بسيطة في المدرسة، ومن بعدها التحق بإمارة القطيف (محافظة القطيف) حتى وفاته (رحمة الله عليه).
مذكرات الغانم
يكمل الغانم حديثه في سرد سيرة والده، فيقول «كان يدون في مذاكرته كل ما يجري حوله من أحداث. فكان يقوم مقام الأحوال المدنية، يسجل تواريخ الميلاد لكل مولود بالهجري والميلادي، كما يسجل الوفيات بالتاريخين، وكذلك الأعراس».
لم يكتف بذلك، إذ كان يدون أي حدث يحصل في البلد، من خير أو غيره، وأيضاً يدون حالات الطقس يومياً، والكثير من الحوادث العالمية بقدر المُستطاع، في زمن يفتقد تسهيلات وإمكانات اليوم، من وسائل الاتصال التي تُسهل معرفة ما يدور في العالم. كانت يومياته حافلة بأشياء جميلة تستفيد منها الأجيال المقبلة، وتبقى الذكريات حاضرة ومدونة كي لا تُنسى.
لكن ما مصير تلك المذكرات؟ يجيب عادل «بسبب الإهمال غير المقصود؛ فقدت وضاع جهد هذا الرجل».
الحاج حسين السنان (وسط) وأبنه أحمد أبو عبدالغني وراشد الغانم.
عضو لجنة الاختبارات
عندما علم أمير المنطقة الشرقية حينها الأمير سعود بن جلوي، بما يقوم به الغانم من جهد، وما يملكه من ثقافة، طلب مقابلته بحضور تركي بن عطيشان، وطلب منه الأمير أن يكون من ضمن اللجنة التي تضع الاختبارات للمتقدمين إلى الوظائف الحكومية في المنطقة، وللمسابقات الوظيفية للمراتب العليا، وإعطاء النتائج مع التوصيات.
قبل الغانم طلب الأمير، وبقي في ذلك التكليف لمدة عشر سنوات، مع استمراره في العمل في إمارة القطيف (محافظة القطيف).
أديب وشاعر
أحب الغانم القراءة والأدب، وكان يشجع ابنه البكر عادل على القراءة وحفظ قصائد الشعر، فكان يختار له قصائد لشعراء مميزين، منهم أبو الطيب المتنبي، أبو العلاء المعري وأبو العتاهية. وكان يدفع مكافأة ريالاً عن كل بيت، شرط أن يحفظ القصيدة كاملة.
يقول عادل «حفظت عدة قصائد بِنَهَم، وبعدها حُول سعر البيت إلى نصف ريال، فواصلت الحفظ، حتى وصل سعر بيت الشعر بقرشين».
لكن الغانم كان يأتي أحياناً بخطبة معينة لأمير المؤمنين علي أبن ابي طالب (عليه السلام)، أو لأمير الشعراء أحمد شوقي، بسعر عشرة ريالات لكل خطبة، فيحفظها الأبن عادل.
يتذكر «في إحدى المرات؛ طلب مني أن أحفظ ألفية ابن مالك التي تبدأ بـ
كلامنا لفظ مفيد كاستق
واسم وفعل ثم حرف الكلم
مقابل 150 ريالاً، واشترط الوالد ألاَّ يسلمني المبلغ حتى أحفظها كاملة، ومن دون نقصان، ولكنني عجزت عن ذلك».
ومن الطرائف التي يتذكرها الحاج عادل أيضاً في مجال حفظ الشعر، أنه كان على يقين من أن والده سيطلب منه حفظ لامية الأصمعي
صوت صفير البلبلِ
هيّج قلبَ الثّمِلِ
فحفظها قبل أن يُطلب منه، وعندما طلب الغانم من ابنه حفظها، قال عادل: هذه قصيدة صعبة، ويجب أن يكون سعر البيت ريالين، فوافق الأب. وعندما قال له الابن: لو حفظتها خلال نصف ساعة فكم يكون السعر؟ قال خمسة ريالات مقابل كل بيت. لمعرفته بصعوبتها.
وبعد أقل من نصف ساعة قرأها عادل قراءة سليمة وجميلة، ولكن هذه الحيلة لم تنطل على الأب الفطن، فأعطى ابنه عن كل بيت نصف ريال فقط.
يضيف الغانم الابن «كثيراً ما كنا نتطارح ونتبارى شعراً، وكان لإعراب الجمل النصيب الأكبر، فحين أنطق أي جملة؛ يطلب مني أن أعرب ما قلته».
يمين الصورة الحاج حسن الغانم أخو راشد الغانم
دور اجتماعي
يشير الغانم إلى أن والده راشد لعب دوراً في مجال إصلاح ذات البين، «كان مقصداً للكثيرين من أجل هذا الغرض. وكم أسرة حفظها من الضياع بمعرفته وأسلوبه الجميل والجيد الذي وظفه في حل الخلافات الزوجية، وكم أصلح بين الإخوان والأصدقاء عندما يُقصد لذلك، كان لا يهدأ له بال حتى يصل إلى الحل الأنسب».
يختتم عادل الغانم حديثه عن والده المرحوم راشد عبدالله الغانم، متذكراً قول الشاعر:
كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَباً
يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ
فَلَيسَ يُغني الحَسيبُ نِسبَتَهُ
بِلا لِسانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ
إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا
لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي
سيرة ذاتية مليئة بالعطاء
ماشاء الله عليه
علم الدراسة بالمجان رحمه الله في وقت كانت الدراسة صعبة