[4]حسن الشيخ فرج العمران.. شاعر ذكرته الأزهار ونسيه الرواة [19] بستان السيحة وسمر في الذاكرة

عدنان السيد محمد العوامي

توالي الاتفاقات والافتراقات

مصادفةُ جُلوسِه إلى معلمة، كما جلست لا غرابة فيها؛ فمعروف أنَّ المعَلِّمات -في القطيف كما في غيرها – يُعلِّمن الأطفال من الجنسين دون سِنِّ التكليف، أما أن يتَّجه – بعد تعلُّم المصحف الشريف – إلى الخطابة المنبرية، ثم ينصرف عنها لخوض معترك الحياة، فلي أن أضيفه إلى غرائب الاتفاقات بيننا، وفي حيز التعليم لديَّ أكثر من شاهد على مناقضة ذلك الاتفاق، فهو تعلم الكتابة وعلوم اللغة عند عدد من أشهر معلميهما في القطيف، منهم والدُه والمعلم الشاعر الملا علي بن رمضان (رحمه الله)، والشاعر محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي، والبريكيَّان الشيخ محمد صالح وأخوه الشيخ ميرزا حسن، وكفى بهم نخبة([1])، ولاسيما مدرسة الشيخين البريكيين، فهذه المدرسة لا أظنُّ أحدًا من مثقفي القطيف وأدبائها شعراء وناثرين، سواءٌ المتخرجون فيها أو غيرهم؛ إلا يقر لها بالفضل والعرفان، كيف لا وقد تخرج منها جُلَّة رادة النهضة الأدبية في القطيف؛ كالأستاذ الشاعر المؤرخ محمد سعيد المسلم، والكاتبين السيد علي السيد باقر العوامي، وأخيه السيد حسن، والشعراء محمد سعيد أحمد الجشي، وأحمد بن سلمان الصايغ الشهير بالكوفي، وعبد الواحد بن حسن الشيخ علي الخنيزي، والأستاذ الشاعر والأكاديمي محمد رضي الشماسي، ومحمد سعيد ابن الشيخ ميرزا حسين البريكي. أما الفقير لعفو ربه، فحظُّه من تعلم الكتابة ما شئت من أصفار على اليسار، فما ظنك بعلوم اللغة؟ فأولا كان تعليمه في مرحلة الكتّاب (مزلـﮕـة)، حسب تعبير القطيفيين، فمعلِّمه كان لديه عدة أعمال تشارك الطلبة فيه؛ فكتابه الذي يعلم فيه (دكان) صغيرة، يجلس لنا فيه قدر ساعة في الصباح، وما أن يصدر أمره لنا بالقراءة إيذانًا ببدء الحصة حتى ينشغل بامرأة يزن لها وﮔـِيَّة تتن خشك، أو بوزن ﮔـْياس شكر، وما يكاد يفرغ من مسح يده المبللة برذاذ طرمبة الكاز، حتى ينشغل بوزن مَن عيش، أو حُـﮕـَّة فلفل، أو ﮔـَهوة (قهوة) بُن([2]). على مثل هذا تمضي الساعة، ليصدر أمره الروتيني المعلوم: (ﮔـَرُّوا (أقرئوا) بعضكم بعضًا)، ثم يخرج للحسينية حيث المستمعون بانتظاره، فيقرأ لهم النسخة (الفخري) ([3])، ويعود للاطمئنان علينا والتأكد بأننا ﮔـَرَيْنا زين، كما أمر، ثم ينصرف للسوق حيث كان يعمل كاتبًا لدى تاجر معروف. وفي الفترة المسائية لدينا مهمة أسمى وأجل من التعليم، ألا وهي الدَّفوف. وتسأل ما هو الدفوف؟ فلا تندهش، فالدفوف ما يبس من الحشائش وورق الشجر يُدَفُّ (ينثر) فوق مربط (حظيرة) البقر ليجففها من الرطوبة.  

وللإنصاف فإن هذا المعلم  (رحمه الله) كان من أجمل معلمي القطيف خطًّا، وخطه يضاهي خط المعلم الرمضان في الحسن، ولكن لضآلة الوقت المخصص للتعليم لا يستفيد الطالب عنده شيئًا.   

في الحلقة الثانية انتهت رحلة الاتفاقات والافتراقات بيننا عند محطة السكة الحديد في الدمام، فلنترك القطار وضجيجه، وننتقل إلى الظهران حيث عملنا معًا فيه وهذا من الاتفاقات، إلا أنَّ عمله كان في شركة الزيت العربية الأمريكية (أرمكو)([4])، وعملي كان لدى مقاول، بوظيفة مراقب نظافة، براتب فلكي قدره (5، 4) ريالات، فصار من حقي أن أشارك البدو أنشودتهم الشهيرة:

الحمد لله! الصاحب ﮔـَيَّد الوارة

ثلاثة أرْيِل، وربعٍ فوگ ﭼـَتِّيها([5])

 

وكان سببَ انفصاله من أرامكو سفَرُه لحج بيت الله الحرام، وتأخُّرُه عن العودة للعمل عدة أشهر، أما سببَ انفصالي فكان حصولي على عمل بمستودع الزكاة بدائرة الزكاة بالمالية في القطيف بوظيفة عامل، بزيادة نصف ريال في الراتب، علاوة فوائد جمة أخرى، منها (الفكَّة) من حياة الجبَل (الاسم الشائع للظهران)، والبدلة الخاكي، وحمل الصفرطاس (السفرطاس)([6])، والركض، فجرًا، كي ألحق سيارات الخط الأزرق (شركة تأسست بين المرحومين عبد المنعم بن عبد الله السنان، وأخيه عبد الرسول، وشريكهما الحاج سعود أبو السعود، تعاقدت مع أرامكو لنقل عمالها من الظهران إلى القطيف، وكانت سياراتها ذات صناديق (مقاصير- Cabins) خشبية مصنوعة بأيد قطيفية، بعضهم توفي، وبعضهم ما زال يتمتع بالصحة والعافية أطاله الله أعمارهم، أعرف منهم عبد الله الغضاير، وأحمد عاشور، والسيد حيدر الأخضر، وحسن البيُّق، وحسن الدهان، رحمهم الله، ومن الأحياء أعرف الحاج علي الدهان بن حسن، أطال الله عمره)، وأهم من هذا تخلصي من مصاريف الأكل والنقل بين البيت والعمل، على أن أكبر تلك الفوائد التي جنيتها من التحاقي بالعمل الجديد  وأهمَّها أنه قربني أكثر من ثلاثة من الإخوة الأصدقاء هم المرحومان سليمان بن حسن الفارس، وصالح بن محمد الفارس (رحمهما الله) وكمال بن محمد الفارس أطال الله عمره. في هذا المستودع عرَفت أسماء كتاب ومؤلفين سمعت عنهم من قبل لكن لم أر مؤلفاتهم إلا في هذا المستودع. كان هؤلاء الزملاء الجدد مثقفين، واثنان منهم نهمون للقراءة، وخصوصًا الروايات والقصص، وكما يقول المثل الشعبي (من عانس “آنس” جانس)، وسرعان ما أصابتني العدوى، فشاركني الكتاب ثلث أول راتب استلمه من عملي الجديد، فاتحًا بذلك بابًا لم يقفل إلى يوم الناس هذا، وشيئًا فشيئًا وجدت نفسي أحاول الكتابة، في المسرحية أولاً كما سلف، ثم المقالة في جريدة أخبار الظهران.

ما كو فكة

كيلا تظنني أتباهى بالكتابة في الصحف آنذاك، أذكرك بأن سميرنا (رحمه الله) نشر الشعر قبلي، وفي الحلقتين الثانية والثالثة قرأتَ له قصيدتين أولاهما وطنية سياسية، وليس النثر كالشعر، كما تعلم. وهنا أقدم قصيدة سياسية من شعره إليك نصها:

نداء([7])

ثورةٌ مثل ما تثور البراكيـ

ـن – بني يعرب – على الأوغاد

دولة الغرب، والأثيمة إسرا

ئيل، فالكلُّ غاصبٌ ومعادي

إيه، عبد الحكيم([8])! يا قائد العر

ب أُسُود الوغى بيوم الطراد

اكتسح إسرائيل واجرف قواها

بقوى كلِّ ناطق بالضاد

اكتسحها ركيزةً الغرب واحطم

من قوى الاستعمار كلَّ عماد

ركَّزتها يدُ السياسة كي تُشْـ

ـغلنا عن مواصلات الجهاد

 شمروا عن سواعدٍ يا بني العر

ب وثوروا بقوة واعتداد

واطردوا الانجليز عن دول الشر

ق، وصونوا الأوطانَ من كل عاد

لا تناموا وأرضُكم بيد الغا

صب أضحت وقومكم في اضطهاد

وقفوا وقفة الجزائر في وجـ

ـه عدو الشعوب كالأطواد

وتحدَّوا زوابع الغرب فالإيـ

ـمان أقوى من القوى والعتاد

ساسة الغرب همُّها الفتك بالشر

ق، لتقضي أوطارها في البلاد

إن معنى المعاهدات صريحٌ

هو تحصيلُ وفْرِنا الاقتصادي

وتليها الأحلافُ وهي أكفٌّ

رشَقَت جمعَنا بسهم البداد

نحن لسنا بحاجة للإعانا

ت، ولا للدفاع فهي أيادي

سدلت دونها العتاة برودًا

من خداعٍ وحيلةٍ لاصطياد

عندنا الزيت موردًا وهو ما سا

ل إليه شوقًا لعابُ الأعادي

عندنا التُّربة الخصيبة والما

ء ثراءُ الآباء والأجداد

عندنا من مناجم المعدن القـ

ـيِّم وفرٌ نراه في كل وادي

ومواد للكيمياء وخيرا

ت من الله للثراء تنادي

فلماذا هذا التقاعس ياقو

مُ؟ وذا الاستسلام للصيَّاد؟

  ولماذا هذا التفرق؟ هل لا

جمَّعتكم بقيَّةٌ من رشاد؟

ولماذا هذا النزاع؟ أفيقوا

واركنوا للإخاء والاتحاد

إن يومًا نرى العروبةَ فيه

وَحدةً إنه من الأعياد

هذا ما وجدت من شعره في الصحف، أما في غيرها فله كثير أثبت اليسير منه أبوه في أزهاره، والباقي بانتظار يد كريمةٍ رحيمةٍ تنقذه من ظلام الأدراج، وغبار الرفوف.

وفاته وتأبينه

توفي (F) فجرَ الجمعة 8، ربيع الثاني 1390هـ، الموافق 12 يونيو 1970م، وأثبت أبوه قصيدة ألقاها أخوه محمد (رحمه الله) في خاتمة العزاء (ليلة الوحشة)، عنوانها: (هوى كوكب من آل عمران) ([9]) يحسن أن أختم بها رحلتنا مع هذا الكوكب المُخبَّأ عن أنظار كتاب السير:

أخي حسنٌ، هل من غيابك مرجعُ؟

فقلبي بآلام الأسى متوجِّعُ

رثيتك لا ذكر الرثاء يطيب لي

ولكنَّ نفسي قد تؤوب فتقنع

أخي، كيف فضَّلت المقام فلم تعد

كأنك من قرب الأحبة تجزع

وأنت الذي لا تغمض الطرفَ عن أسىً

يصاب به شيخٌ وطفل ومُرْضع

بسطت يدًا لا تعرف الشُّحَّ كفُّها

وعلمتنا درسًا إلى الحشر يسمع

وشيَّدت بيتًا للزواج وقد غدا

يئنُّ، وحيطان البنا تتصدَّع

وخلَّفت أمًّا قطَّع الحزنُ قلبَها

وقلبَ أبٍ من حزنه يتقطع

ومن أخواتٍ باكياتٍ، وإخوةٍ

تَجرَّعُ من كأس الأسى ما تَجَرَّع

أترضى لأم تذرف الدمعَ ليلَها

وأنت الذي من حزنها تتوجع؟

أتسلو أبًا قد أنهك البون جسمَه؟

أودَّعته؟ أم بالدموع تودِّع؟

فظيعٌ، أخي، ذكر المصاب لهوله

ولكنَّ كتمانَ المصيبة أفظع

فُجعنا بأمرٍ يحزن القلب قولَه

ولكنَّ فُقدان الأحبة أوجع

هوى كوكبٌ من آل عمران بغتةً

ولكنه في الخلد يسمو ويسطع

فصبرًا، بني عمران، إني أراكمُ

إلى الصبر أهلاً، إنه يتمتع

بِحُورٍ ووُلْدانٍ تُزَفُّ لروحه

كما زُفَّ للقبر الفقيد، وتهرع

فطب، يا أخي، نفسًا بأنك لم تمت

فذكرك بين الخافقين سيطبع

فقولوا معي: إنا إلى الله نرجع

فروحُ أخي بين الأحبة تسمع

تغمد الله حسنًا بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه، إنه سميع مجيب.

________

([1])الأزهار الأرجية في الآثار الفرجية، الشيخ فرج العمران، دار هجر، بيروت، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م، جـ15/418.

([2])الحرف (ﮔـَ): قاف في الفصحى، وينطق جيمًا مصرية، ووﮔـِيَّة: أوقية، وزنة، وتتن خشك: ورق التتن الخام غير المصنَّع، وﮔـْياس: قياس، ويعادل  500 غرام، وشكر: سكر، والمَن: زنة تعادل 16 كيلو، والعيش: الرزّ، وحُـﮕـَّة: حقة، زنة تعادل 4 أوقيات، وهذه الوزنات لم أجد تعريفًا لما يعادلها من موازين اليوم إلا الألف، وهو مقدار وهو 1000غرام أي كيلو، والمن القطيفي، وهو يعادل 16كيلو.

([3])النسخة، والفخري: عنوانان لكتاب واحد هو: كتاب المنتخب في جمع المراثي والخطب، ويشتمل هذا الكتاب على مراثي وخطب قيلت في رثاء أهل البيت(ع).[32]ويسمى هذا الكتاب أيضا بمجالس الطريحي و المجالس الفخرية.

([4])الأزهار الأرجية، مر ذكره، جـ15/426.

([5])الصاحب: الأمريكي، و ﮔـَيَّد: قيد والمعنى كتب، والوارة: (Hour) الساعة، وﭼـَتِّيها: الـﭽـَتِّي (Chit)، المذكرة.

([6])طاسة السفر: عدد من الطاسات، ذات عرى يدخل فيها حامل معدني له مقبض، يوضع إحداها الرز، وفي الثانية الإدام، وفي الثالثة السلطة، إلخ.

([7])جريدة أخبار الظهران، السنة: 2، العدد: 25، الجمعة 20 جمادى 2، 1375هـ، 10 فبراير 1956م، ص: 2.

([8])المشير محمد عبد الحكيم عامر، أحد ضباط ثورة يوليو 1952م المصرية.

([9])الأزهار الأرجية، مر ذكره، جـ15/430.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×