عبدالخالق الجنبي.. القارئ النَهِم

عبدالله بن علي الرستم
مضى عامان على رحيل الصديق العزيز الأستاذ عبدالخالق الجنبي (رحمه الله)، وكنت خلال الفترة الماضية أقرأ بعض ما سطّرته يراعته في عدّة من بحوثه ومقالاته التي تُذهلني قدرته في التتبع وفحص النصوص التاريخية والأدبية والجغرافية وغيرها، وما ذاك إلا للعزيمة والإرادة التي عرفتها عن قُربٍ، فما إن يطّلع القارئ على بحثٍ ما إلا وتجد كماً كبيراً من المعلومات التي تَتَبَّعَها ورصف حروفها في بحوثه ومقالاته، وهذا يُبنئ عن مدى ممارسة عشقه وشغفه في البحث للحصول على المعلومة الصحيحة، بالإضافة إلى الجِّدّية في الطرح، ولا شك أن وراء كل بحثٍ حكاية وقصّة، وهذا ما عايشته عن قُرب كلّما التقيتُ به ومجموعة من الأصدقاء، حيث يسرد لنا حكاية عن كل مقال وبحث، ولا يخفي استغرابه وتعجّبه أو تفاعله وثناءه تجاه بعض البحوث التي صدَرَت حديثاً، ولم يكن ذلك الشعور ناتجٌ عن عاطفة؛ بل عن محبّة وحرص على صدق المعلومة وثبوتها، مع إعمال القرائن والنصوص ذات الصلة بهذا البحث أو ذاك.=
من خلال ذلك كلّه (قراءة بحوثه وجلساتنا المتكررة والاتصالات) أزدادُ يقيناً بأن الأستاذ الجنبيَّ قارئٌ نَهِمٌ، ومتابعٌ للإصدارات المتعلقة بتاريخ إقليم البحرين خصوصاً والجزيرة العربية عموماً، ذلك أني أُفاجأ بقراءة معلومة بين ثنايا بحوثه نصاً تاريخياً أو بيتاً من الشعر أو عبارة من معجمٍ لغوي أو جغرافي أو من كتاب حديثٍ أو من مصدر ما، قد لا أتوقع وجود هذه المعلومة في ذلك الكتاب، وإذا بي أجد المعلومة موثقة بالمصدر، بل إنه يتحدث في تفاصيلها، كما أنه في المعلومة التي يحرص على الحصول عليها يتابع طَبَعات ذلك الكتاب ومخطوطاته، وتحقيقه لديوان ابن المقرّب العيوني نموذجاً ودليلاً على ما أقول، وإلا فهناك أكثر من بحث فيه عدة مؤشرات تدلُّ على أنه يسعى في الحصول على مخطوطة كتابٍ مصوّرةٍ للاستعانة بها في قراءة نصٍ يختلف فيه مع محققٍ أو باحثٍ ما، حيث يبذل جهده في قراءة تلك المخطوطة ليخرج ببعض النتائج من خلال قراءته.
واستناداً إلى ما سبق ذكره، فإن الأستاذ الجنبي، لا يكتفي بطباعة كتابه والنتائج التي توصل لها، بل يأنس بالمناقشات واستعراض الأدلّة في المعلومات التي ذكرها؛ بل إنه يتابع ما يُكتب حول مادة البحث من قبل باحثين آخرين، بل إنه يمتلك الشجاعة في التراجع عن بعض آرائه إذا تبيّن خلافها، ومنها بحثٌ نشره بعنوان (قراء جديدة لكتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسفيان بن همام الظفري المحاربي العبدي)، حيث بعد قراءة واستعراض مستفيض يقول: (إلا أنني لم ألتفت إلى قول الشارح بأنّ نخلين من قرى الأحساء، أو سواد الأحساء وفق بعض النسخ، وبالتالي لا ينبغي لها أن تكون خارج هذا النطاق، والجوف لم يكن يُعد من سواد الأحساء في زمن ابن المقرَّب، فنخلين ينبغي أن تكون خارج نطاق الجوف؛ كما إنني أخطأت أيضاً عندما قلتُ في النصّ أعلاه بأنّ نخلين هي الدغيمية التي تسقيها عين النخل، وكنت قد أخذت ذلك عن الأستاذ الجاسر كما هو مشار إليه في النص، ولكن اتضح لي أنّ عين النخل هي واحة أخرى تقع شمال الدغيمية، فيرجى التصحيح).
ونافلة القول – والحديث طويل وجميل عن جهود الأستاذ الجنبي – أن الراحل الجنبيَّ قارئٌ لا يتوقف عند المعلومة التي تعجبه؛ بل إنه من قراءاته وبحوثه المتواصلة يستنطق النصوص بأدواته البحثية وفق معايير واضحة لا غموض فيها، وإن اختلف القارئ في بعض نتائجه معه، فإن الاختلاف يُحترم نظراً لجدية القراءتين معاً، وهذه طبيعة البحث العلمي التي لا تصنع تشنّجاً ولا خلافاً؛ بل تصنعُ معلومات تُقرأ من زوايا مختلفة.









شكرًا للأستاذ عبدالله على هذه القراءة الوفية العميقة لتجربة الأستاذ الراحل عبد الخالق الجنبي رحمه الله، فقد جاءت كلمتك شهادة علمية وإنسانية ناضجة، عكست براعة في الكتابة، وصدقًا في التقدير، وفهمًا حقيقيًا لمنهج الجنبي البحثي وأخلاقياته العلمية. نصٌّ لا يكتفي بالتأبين، بل يُنصف التجربة ويخلّدها.
تحياتي
صالح بن عبدالله السماعيل