السيرة الشعرية.. “أسفار ابن عواض” نموذجاً

محمد الماجد*
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مساء الخير عليكم جميعا
في البدء أشكر منتدى تمائم وبيت الثقافة على هذه الاستضافة..
كما أعبر عن سروري البالغ بوجودي إلى جوار قامة كبيرة لطالما شكلت مصدرا للإلهام لي، ولجيلي من الشعراء، شاعرنا الكبير السيد أبي أحمد، الشاعر عدنان العوامي، وكذلك إلى زميلنا عبر الزووم الشاعر فيليب فرانكو، وأيضا لكم جميعا أيها الأخوة.
سأتحدث عن (أسفار ابن عواض) موضوع هذه المشاركة هو إصداري الثالث، وقد صدر عن دار صوفيا شراكةً مع نادي الطائف الأدبي في 2022، سبقه (مسند الرمل) عن دار الانتشار في 2007م، و(كأنه هو) عن دار مسعى في 2017م، في التصنيف وسمتُه بوسْم (سيرةٌ شعريةٌ)، وفي الموضوع (محمد الثبيتي، منذ الرقية المكية وحتى موقف الرمال)، وفي العنوان (أسفارُ ابن عواض).
وأسفار من الممكن أن تكون جمعا لمفرد وهو (سَفَر) بمعنى الارتحال، أو (سِفْر) بمعنى الكتاب، وقد تركت للقارئ حرية الاختيار بينهما، أما (ابن عواض) فهو محمد الثبيتي، وعواض هو أبوه، ودعوني أوافق الدكتورَ سعيدَ السريحي، مقرّضَ هذا الديوان، فيما قاله بهذا الخصوص في مقدمته، أقتبس “والماجد ينحرف عن محمد الثبيتي إلى ابن عواض فإنما يفعل ذلك ليُشرّب لغته عتاقة تؤول بها إلى تمتمات قديمة تسفر عن خد وتصد عن خد ثم تنثني كالنفس المرتد”.

وأرجو ما دمنا في رحاب السريحي، أن نتوجه لله جميعا بالدعاء له بالشفاء العاجل، سأستمر في الاقتباس منه لتكونَ كلماتُه مدخلاً لما سوف أقولُه، اقتبسُ مرةً أخرى “في هذه التجربة راح الماجدُ يستنطقُ من قصائد الثبيتي ما لم تقلْه تلك القصائد، كأنما يستكملُ حديثاً للشاعر وضعَ الموتُ يدَه على فمِه قبلَ أن يكملَه، ويستنطقُ من تاريخ الجزيرة ما وضعَ المؤرخونَ أيديَهم على شفاه الجزيرةِ كي لا تبوحَ به” انتهى الاقتباس.
هل كانت مهمتي هي استئنافٌ لما قام به الثبيتي بحسب السريحي، ربما، فقد ترك محمدٌ بابَ الصحراء موارباً وراءه ورحل، ولم يكن ذلك الإغراء بالذي يستطيع مثلي مقاومتَه، ربما لم يمهلْ ابنَ عواض الوقتُ ولا الظرفُ للقيام بكل ما أوكلَه إليه الشِّعرُ، شأنَ النبؤات أنْ تكتفي بالوميض، بالشعلة الأولى، وليس عليها أن تجهز على الظلام، فقررتُ الدخولَ متخذاً من ذلك الوميضِ نبيّاً و ” كان يمكن ألا يحالفني الوحيُ ” كما يقول درويش
والوحيُ حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ
فكان قدري أن ألتقطَ ريشَ القصيدةِ، وأنْ أغسلَه ثم أعلّقَهُ على الحبْلِ ليجفَّ، ثم لأدعوه دعوةَ ابراهيمَ للطّير، ولحسن الحظِّ أنَّ ذلك الريشَ صار جناحاَ، والجناحَ طيراً أتى فآنس وحدتي في تلك البريّة.
البريّةُ.. لعلَّ هذه الكلمةَ هي الزّندُ الذي قدحَ كاحلَ الوميض فأصبح حريقاً، ولكيلا أقعَ في مرض المجاز أكثر مما وقعتُ فيه إلى الآن وأورطَكم معي، ما قصدتُه هو الآتي:
مع الثبيتي شعرتُ بأنّ كلَّ كلمتينِ متجاورتينِ يلفظهما ذلك الكاهن المكي تختبئ ورائهما بريّةٌ من المفردات، فكان عليَّ أن أعملَ في أكثر من مهنةٍ غير كوني شاعراً: قصّاصاً للأثر، اركلوجيّاً، حفارَ قبور، حوذيّاً، وأن أكونَ خيمةً ومهمازاً وجمراً وريحاً، عرافاً يضربُ الرملَ، ودخّاناً يتساقطُ كما دراويشٍ محترقين في جحيم الرؤيا، فصاعقٌ بلاغيٌّ كمحمدُ الثبيتي كان جديراً بأن يوقفَ أيَّ مغامرٍ دونَ الولوجِ فيما ولجتُ أنا فيه من مقامرة باسم اللغة، نبشاً لفرائده وحدَبَاً عليه، ولكنني فضلت الاحتراق على التراجع.

أمّا لماذا؟
فلأنني شعرتُ بأنَّ ما بدأهُ سيّدُ البيدِ قد أوصلني كقارئ الى الحافة بينما كان هدفي هو الهاويةُ، وحسناً أنَّ مردةَ الثبيتي وجنيّاتِه وجدوا فيَّ من الشبه ما جعلني مادةً لرهاناتهم فسقطتُ سقوطاً حرَّاً، غيرَ ان الخبرَ السعيد هو أنه أصبح لدي الآن بالإضافة إلى وميض النبوءة جنياتٌ ومردةٌ، فكان عليَّ أن أعيدَ قراءةَ شِعْر الثبيتي وتقديمَه بمعونة هذه الكتيبة، في مهمة ذات هدف واحد وهو: وضع لغة الثبيتي في مسار من المجاز ذي تردد أثيري خاص وملتبس: فربما فضحها في مواضع، وعمّاها في مواضعَ أخرى.
هذا أولاً
ثانياً: لقد وجدتُ في تجربة الثبيتي العظيمة على المستوى الوطني عملاً نادراً، وعلى المستوى العربي العملَ الذي قوبل بالكثير من التجاهل، أما على المستوى الشخصي، فبعد سنواتٍ متطاولةٍ من الجهاد الحسن، حيث كنت والثبيتي نغرف من البئر نفسِها، فقد اعتبرت “أسفار ابن عواض” فاتورةَ حسابٍ متأخرةٍ، قمتُ بتسديدها وفاءً لعشقي لسيّد البيدِ ولتراب الجزيرة، مع ادّعاءٍ واضحٍ بأنَّ ما بذلتُه في هذا السبيل كان امتحاناً لجلدي فيما إذا كنت سأنجح في الكشف عما خبأه ابنُ عواض تحتَ حَجَرِ البلاغةِ، آملاً أن أكونَ الشخصَ الذي سيفضُّ ختْمَ الحَجَرِ.
والآن اسمحوا لي أن أقتبسَ من “أسفار ابن عواض”، ما يعينُني على قراءةِ طالعِنا نحنُ مريديه قبلَ عقودٍ من الآن، فلعلَّ في هذا الطالع ما ينبئُ القارئَ بالطقوس التي كنّا نجريها جماعةً، فرحين كلّما سقطت قصيدةٌ من قصائد ابن عواض في مناقل قلوبنا فأوقدنا عليها بالجريد والجمر.
هنا أنا أقتبس من (الأسفار):
“وكانت الفتاةُ منهنَّ عادةً ما تُصاب بالدوار مرةً أو مرّتَين في العام الواحد، قبل أنْ تدمنَ الوقوفَ في مهبّات محمد لينحَر عنقها بالعقيق والرّقى وأهلّة العاج، أما فتاها فكان ينتظرها في ممرٍّ أزرقَ من الحيرة، مضطّرباً وكأنه يقف على رأس موجة في الطَّلْق، فإذا خرجَت فتاتُه عليه اطمأنَّ فطوى شراعَها تحت ذراعيه فيما هي تسْفع صاريته بيودٍ ونشيج: للتَّوّ مرَّ من هنا، انسلَّ مثل خَيط من البرق، لفح رقبتي بصهيلٍ حارٍ ومضى.
والفتى ينزعُ برفْقٍ أفلاكَ العقيق والعاج عن رقبتها ويضحك
يضمِّدُ بياضها من أثَر الحروق ورماد الرقى ويضحك …!”
نعم
كانت هذه هي تركتُنا منه: حروقٌ ورمادٌ وشاشٌ وضحكٌ يقطِرُ خِفّةً، ضحكٌ يملي عليه المجازُ فيقفِز، ثم يملي عليه فيتمدد، ثم يملي عليه فيبكي، ولم تكن تلك الفتاةُ سوى القصيدةُ، أما فتاها فهو كلّنا مجتمعين، يعكِفُ كلُّ واحد منّا عليها عكوفَ الراهب، حتى يستحيلَ إلى جمرةٍ من المسّ، فكيفَ لي بعدَ كلِّ هذا الذي عرفتُه من وَجْدِ الشِّعر ألا أسهرَ على نارِ بابلَ، أو أقطعَ النفودَ، أو أبلغَ مطلعَ الشمسِ بحثاً عن عشبةِ الخلود التي دسها الثبيتي في جيب الشّعر.
وكيف لي أخيراً ألا أتهجدَّ بتلك اللغة الحجرية، أبيضاً كعروق الزجاجة، مردّداً:
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
صُبَّ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ
فكان عليَّ أن آتي بخراج تلك السحابة أينما ذهبت، ضارباً في الجهات وأعشار التجارة.. تجارة اللغة، باحثاً عن رقيق الشَِعْر لأحرّرَه من قيوده، وأطلقَه سانحاً من سوانح الطير… وأحسبني فعلت
دمتم
وشكرا لكم جميعا.
* ورقة قدّمها الشاعر الماجد في الجلسة الحوارية “مرايا القراءة”، في مقر بيت الثقافة، الدمام، مساء البارحة 19 ديسمبر 2025.