هشاشتنا الداخلية في “صوت العاشر” زكي العبدالله يدفع بفيلمه في مهرجان البحر الأحمر

حليمة بن درويش

فيلم “صوت العاشر” المشارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في نسخته الخامسة بمدينة جدة، للمخرج السعودي زكي العبدالله، سيتم عرضه ضمن أيام المهرجان للأفلام القصيرة.

فليم يفتتح مشاهده كمختبر إنساني فلسفي كبير حول علاقتنا بالعالم، وبأنفسنا، وبالهشاشة التي نحاول أن نخفيها تحت مظاهر القوة والانتماء!

يبدو الفيلم وكأنه يتحدث عن قصة طفل فاقدٍ للسمع، تتعطل سماعته ليحاول جاهداً إصلاحها في يومٍ تٌغلق فيه جميع المحلات! لتنكشف لنا معاناته في إصلاحها.

هل هذا كل شيء؟ أم هي معاناة طفل عاجز عن الاندماج مع الآخرين! عاجز عن التواصل الحقيقي مع العالم، عاجز عن احتواء صمته وفهم مشاعره، عن عزلة موجعة رغم وجود كل الناس من حوله، تلك الوحدة التي لا يشفع لها زحمة العابرين من حوله. ولا تشفع له إعاقته السمعية في محاولة جذب اهتمام خاص نحوه.

زكي العبدالله مخرج فيلم “صوت العاشر” وقبله فيلم” صالح” يجعلك تقف أمام قدرته الإبداعية في خلق حالة صادمة من الأسئلة الوجودية في دقائق معدودة، لكنها تنهال عليك بوابل من القضايا المتشابكة والمعقدة عن الإنسان، والهوية، تعريف الذات، الصوت مقابل الصمت، الأمان مقابل الضياع، أين نحن وأين نجد أنفسنا، العزلة والوحدة وغيرها الكثير والكثير من الأسئلة التي تحاول أن تقبض عليها وسط مشاهد تحمل في طياتها سؤال عصي على الفهم يجعلنا عراة أمام ذواتنا!

يبدو الفيلم في بساطته السخية والعميقة، بلحظة تعطل سماعة طفل لتبدأ معاناته المربكة واهتزاز لوجوده بأكمله، وكأنه فجأة يصبح الطفل الذي خرج من لغته ودفئها ووسيلته التي يتواصل بها لينقطع عن العالم من حوله ويدخل عالم آخر فارغا من كل شيء إلا ذاته، ويفقد بذلك قدرته على قراءة العالم والتواصل والاندماج مع ما يحدث، بل وعجزه عن فهم تجاهل الآخرين له وكأنه هامشيا على رصيف الزمن والحياة يمر مرورا لا يراه أحد.

فالطفل الذي يقف في ذروة ليلة تحمل صوت جمعي طاغٍ، يجد نفسه فجأة في عزلة تفضح غياب الإصغاء الاجتماعي، وهشاشة الإنسان واعتماده على وسائط تربط وجوده بالعالم، تلك الوسائط الحسية المادية كأن تكون جهازا تقنيا، تتلاشى معه كل مشاعرنا وتغيب مع اختفائه أو تعطله كل ما يربطنا بحقيقتنا وإنسانيتنا.

الفيلم يطرح سؤال قديم/ جديد: كيف نسمع العالم ويسمعنا وهل نعيشه باللغة أم بالانتماء؟

ونجد هنا أن السماعة ليست مجرد قطعة تقنية يتعلق بها الطفل لينجو من عزلته، بل هي وسيط وجودي، هي جسره الذي يعبر به نحو الآخر، نحو انتمائه، وبمجرد تعطل هذا الوسيط ينكشف لنا ما هو أعمق من ذلك، فعلاقة الطفل بالعالم مشروطة بأداة تفضح هشاشة التواصل الحقيقي، وبأن الحداثة التي وعدتنا بالوصل قادرة في أي لحظة عندما يكون الاعتماد عليها فقط قادرة على تركنا في عزلة كاملة.

وبالتالي هل علاقتنا بالعالم من حولنا مشروطة بلغة منطوقة أو مسموعة؟ أم هي أكبر من ذلك؟ هل هي علاقة انتماء واحتواء؟ علاقة تترجمها المشاعر الإنسانية التي تُشكل صدقنا، حقيقة إيماننا، جوهر ما ندعيه من مبادئ؟ هل هي تلك الحزمة الكاملة لنكون أحياء؟ وهذا ما يبرزه لنا العبدالله في التفاصيل البصرية والسمعية التي ركز عليها، أن يثير لدينا كل هذه الأسئلة، فالفكرة في بساطة سردها تحمل عمقاً فلسفياً، وفنياً، وإنسانياً، أكثر تعقيداً من مجرد إثارة تعاطف واستنطاق مشاعر نحو إعاقة الطفل ومعاناته، بل يباغتنا المخرج من خلال رؤيته وزوايا التصوير لاستنطاق ما هو أبعد من ذلك.

ليلة العاشر … صوت يبلغ الذروة يكسر الصمت

يقتنص العبدالله بذكاء اختياره لليلة العاشر، ويأتي هذا الاختيار المتعمد ليس كمجرد سرد زمني، بل هو ذروة الصوت الجمعي، قراءات تصدح في كل مكان، مواكب، إيقاعات جماعية، مشاعر متدفقة … ومع ذلك كل هذا العالم المليء بالصخب لا يصل منه شيئا لهذا الطفل الوحيد وسط غياب سمعه الذي انطفأ، ليتجلى التضاد الوجودي في لحظة مدهشة من خارج يفيض بالحياة، وصوت جمعي لإيقاع سريع معلن، إلى داخل يغرق في الصمت والوحدة متجها للتلاشي والعدم.

ليلة يفترض أنها ليلة “الانتماء الجمعي” تتحول بالنسبة للطفل إلى ليلة قطيعة وعزلة كاملة، وحالة من الإحباط المؤثرة، وكأن إعاقته لا تكفي ليكون هناك تحدي آخر، تحدي أن يقول للآخرين أنه حاضر بينهم بالفعل، وأنه غير العادي بينهم ليتحدى ضعفه ليكون بطريقة ما، له كينونته وقيمته وذاته التي يدافع عنها، بطريقة ما عليه أن يحيا.

يبدو هذا التناقض مربكاً، فكيف علينا أن نبجل صوت الجماعة بينما نجد أنفسنا عاجزين عن الوصول لصوت الفرد في ضعفه، ومن يا ترى يعيش الحداد الحقيقي؟

وقد نجح الطفل”البطل” الذي أدى الدور في إيصال هذه المشاعر المربكة بنظرات عينيه وهما تحملان الحيرة والخوف والقلق بشجاعة وقوة، التي استوقفتني كثيراً، نظراته التي أكدت أن اللغة السينمائية قادرة على فضح المسكوت عنه ببراعة الممثل وذكاء المخرج، وأن السينما قادرة على أن تجعل من اللغة أكبر من مجرد أصوات لحوارات طويلة، وأن الممثل قادر على إيصال الرؤى بأدائه المميز رغم صمته، بلا أي تكلف أو حشو مبالغ.

عزلة أكبر من الإعاقة

وهنا يعود العبدالله لطرح أسئلته الإنسانية ويثيرها علنا ليضعها أمام حقيقة المواجهة كما فعل ذلك في فيلمه “صالح” مسبقا حيث التخاذل المجتمعي وتخليه عن مسؤولياته أمام الفرد الضعيف، ليواجهنا بقضية أكبر من مجرد الالتفات لإعاقة طفل تعطلت سماعته ليبحث عن حلا ولا يجد أحد، المحلات المغلقة، وانشغال الجميع عنه، وهو في حالة عزلة لا يراها غيره، ليكشف لنا العبدالله أن العزلة ليست نتاجاً للضعف السمعي لدى الطفل، بل هي غياب لبنية اجتماعية عليها الالتفات للمختلف عنها، وترك باباً مفتوحاً لهم، فالعزلة هنا لم تكن في غياب السمع وانقطاعه عن العالم الخارجي وحسب، بل هو غياب للاعتراف به وبحقه في أن يُلتفت له، هذا المجاز المعلن لما هو أبعد من ظاهره.

الطفولة… مرآة تفضح هشاشتنا الإنسانية

جاء اختيار الطفل ليكون بطلاً للفيلم موفقاً برأيي لأنه يمنح التجربة ويحملها عمقاً وجودياً أكبر، فالطفل في المنظومة المجتمعية يُنظر له على أنه جزء صغير من الكل الكبير، وأن دوره هامشي بينما هو مكون أساسي لصناعة المستقبل والحياة القادمة بكل ما يُزرع في روحه ويُغذى به، وبالتالي سينمو ويتشكل وفق كل هذا، الطفل ربما فرد صغير الحجم والمكانة والقيمة في ظل ما هو أكبر، وهذا ما يُخبرنا به العبدالله.

“صوت العاشر هو صوت الطفل في صمته” وهو يمثل أيقونة المواجهة الحقيقية لكل المبادئ التي يتشكل بها وعي المجتمعات، وهو أداة الفيلم لإيصال رسالته، ناهيك عن أن الطفل أكثر شخصية بإمكانها التعبير عن عدم قدرته على شرح فلسفته التي يعيشها داخله، وعن فوضى المشاعر التي يعيشها ويعجز عن شرحها كالارتباك، الخوف، القلق، العزلة، ثقته بالعالم الخارجي، وكل تلك الأبواب التي أُغلقت في وجهه لتتركه وحيدا.

الطفولة تكشف لنا هشاشتنا الإنسانية، أمام طفل ليس مجرد ضعيف السمع فقط يحمل سماعة معطلة يبحث لها عن حل يعيده للعالم من حوله وإنما أمام الإنسان في أشد لحظات ضعفه حين ينقطع عن العالم ليكون في مواجهة مع الوحدة الموجعة يحاول جاهدا إصلاح علاقته به بينما الأبواب مغلقة بلا انتباه له، والجميع مشغول عن الالتفات لصوته.

“صوت العاشر” وجدته أكبر من قصة “تعطل سماعة لصبي صغير” يعيش عزلة مجتمعية وسط الزحام، ” صوت العاشر” جاء فاضحاً لهشاشتنا الإنسانية عندما تكون على المحك وعندما تختبرنا التجارب فنقف وجها لوجه أمام مرآة الإنسانية، هشاشة الوسائط التي نخلقها، هشاشة البنى الاجتماعية، هشاشتنا الداخلية، وعن قدرة الصمت العجيبة التي تكشف غياب قوة الصوت الحقيقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×