يداً بيد للحد من تكاثر “سوسو السفاح” !

محسن المرهون
إننا بلا شك نعيش في عصر يولي للمهارات والخبرات أهمية كبيرة في تحديد قيمة الإنسان ومكانته الاجتماعية، حيث تتسابق الشركات والمؤسسات باختلاف أشكالها ومجالاتها من أجل استقطاب الكفاءات من كل مكان، وتعمل على إعدادهم وتطويرهم، وتراهن عليهم في تحقيق الأهداف والعوائد المطلوبة.
وبرغم وجود آليات وأساليب لاختيار وترشيح الموظف أولاً، ثم لمتابعة وتقييم أدائه ثانياً، بالإضافة إلى وجود قواعد خاصة بالترقية في درجات الهيكل التنظيمي، إلا أنه لا يزال هناك الكثير ممن يشغلون أدواراً دون امتلاكهم للمستوى المطلوب من الكفاءة، بل وتجد بعضهم يشغلون مناصبَ مهمة في بعض المؤسسات من دون أدنى معرفة بمتطلبات الدور الوظيفي، لدرجة أنك تتساءل عن الطريقة التي وصل بها هذا الشخص الأعجوبة إلى هذا المكان!!
في حقيقة الأمر هناك احتمالات كثيرة لحدوث ذلك، لكني أود أن أسلط الضوء في مقالي هذا بشكل محدد على تلك الفئة من الأشخاص الذين يحترفون إقناع المدراء ومسؤولي التوظيف بجدارتهم الزائفة، عبر إتقانهم لبعض السمات السطحية في المظهر والأسلوب، بمعنى أنهم يتقمصون اللهجة الواثقة مثلا للموظف الجيد، بالإضافة إلى انتقاء بعض المفردات التي قد توحي بأنهم أصحاب معرفة وخبرة، بل حتى من خلال طريقة اختيار اللباس والعناية بالهندام التي قد تعطي انطباعاً على جدارة الشخص وأهليته لشغل وظيفة أو منصب ما.
وقد أخذني التفكر في هذه الحالة إلى استذكار واحدة من أروع لوحات سلسلة مرايا الشهيرة للفنان والمؤلف السوري ياسر العظمة، وهي الحلقة الـ 13 من موسم مرايا 99، وكانت بعنوان: “سوسو السفاح”.
لقد جسد الفنان ياسر العظمة بنفسه في هذه الحلقة شخصية رجل اسمه “سليم”، كان صاحب شخصية ضعيفة ومهزوزة حتى داخل بيته حيث يتعرض للقهر والتسلط من قبل زوجته التي تتحكم فيه، وتسيطر عليه بشكل أبعد ما يكون عن الصورة المألوفة للمرأة وطبيعتها الأنثوية الرقيقة.
ثم تُظهِر الحلقة كيف أن سليماً ربما نتيجة لهذا الضغط ومحاولة لتعويض شعوره بالدونية يقوم بتقمص شخصية الرجل القوي أو “القبضاي” كما يعبرون عنه في اللهجة السورية، ويتوجه لأحد المقاهي المعروفة بـ “قهوة القبضايات” التي يرتادها مجموعة من المجرمين وأصحاب السوابق وخريجي السجون، الذين يظهرون في المشاهد السابقة من الحلقة وهم يتفاخرون بقصصهم البطولية التي تجمع بين الشجارات والمضاربات، وقصص الهروب من السجن.
ومنذ دخوله الأول إلى المقهى (القهوة)، استطاع “سليم” أن يقنع الجميع بأنه الشخص الأقوى والمستحق الوحيد لزعامة المكان، وتمكن من جعل الرعب يدب في قلوب جميع هؤلاء المجرمين برغم كل ما يمتلكونه من تاريخ وسجلات سابقة وسمعة كبيرة في المنطقة.
ولم يكتف بذلك، بل قام بتوجيه الإهانات وعبارات التحقير للجميع في أكثر من زيارة، وتحداهم بصريح القول لكن أحداً لم يجرؤ على الوقوف بوجهه، وذلك كله عبر تقمصه المتقن للشخصية التي جاء ليجسدها، وقد أطلق على نفسه اسم “سوسو السفاح” وأجبرهم على ترديد اسمه وفعلوا ذلك بمنتهى الإذعان!
ولو تأملنا الواقع لوجدنا أن هناك الكثير ممن يشغلون أدواراً وظيفية وهم مثل سوسو السفاح، لا يملكون إلا فن التظاهر والتقمص، وتخيل معي عزيزي القارئ، مقدار المعاناة للموظفين الذين يشرف عليهم مدير من فصيلة سوسو السفاح! يصول، ويجول، ويكافئ ويعاقب فقط لأنه يجيد التمثيل والخداع وتقمص قشور الدور دون جوهره!.
وهنا لا بد من الإشارة للإسهام الرائع لعالم الاجتماع الأمريكي إرفينج كوفمان Erving Goffman (1922-1982)، المتمثل في نظريته المعروفة بنظرية التمثيل المسرحي Dramaturgical Theory، حيث شبه الحياة الاجتماعية بالمسرح من عدة جوانب، منها أن الفرد حين يشغل دوراً معيناً في الحياة الاجتماعية، فإنه يقوم بتجسيده عبر تقمص السمات المحددة لهذا الدور داخل المجتمع.
ويعتبر جوفمان أن الفرد أثناء عرضه لدور ما – كما يفعل المعلم أثناء شرح الدرس – يكون في هذه اللحظة كالممثل أثناء وقوفه على خشبة المسرح الأمامية لتأدية دوره أمام الجمهور، وجمهوره هنا هم طلابه.
وقد أشارت النظرية للواجهة الشخصية التي يتم التعبير عنها عن طريق المظهر والأسلوب وكيف أنها تسهم في تحقيق ما يُعرف بإدارة الانطباع، وضمان اعتراف الجمهور بجدارة الفرد في شغل الدور الذي قام بتأديته مما يؤكد ويثبت وجوده واستمراريته في هذا المكان.
ولم يغفل جوفمان المسرح الخلفي أو كواليس الدور الاجتماعي، حيث يتصرف الفرد بشكل طبيعي وعفوي كما يتصرف الممثل عندما يخرج عن أعباء الدور أثناء الاستراحة أو قبل بدء العرض؛ فالأستاذ الجامعي يتصرف بشكل أكثر عفوية عندما يكون في منزله، والشرطي يتخفف من أعباء جديته وانضباطه عندما يخرج للعشاء مع أصدقائه، وهذا كله بهذا القدر يعتبر أمراً طبيعياً، بل لا بد منه.
أما سوسو السفاح فكان يعود في الكواليس لدونيته فيتجرد من “السفاح” ويبقى مجرد “سوسو”، وهو الأمر الذي تمكن أحد زبائن المقهى من اكتشافه وكان يُدعى “شاهر”، ويلقبونه من باب الاستهزاء بـ “شوشو”، حيث كان أقلهم رصيداً من حيث مدة المحكومية وقصص العنتريات، لكنه الوحيد الذي أصر على مواجهة السفاح فتبعه خلسة من المسرح الأمامي إلى الكواليس ورأى ضعفه ووهنه عندما صادف زوجته في الشارع ودار بينهما حوار سريع تمكن شاهر من سماعه.
ولو كنتُ مشاركا في كتابة السيناريو لجعلت شاهر هنا يتمثل المقولة الشهيرة المنسوبة للكاتب التشيكي فرانس كافكا: “لقد شعرت بالخجل من نفسي عندما أدركت أن الحياة عبارة عن حفلة تنكرية وأنا حضرتها بوجهي الحقيقي”.
في الختام، إن استناد بعض خبراء التوظيف والمدراء على السمات والعلامات السطحية في ترشيح الموظف أو تقييمه يسمح بتكاثر أمثال “سوسو السفاح” ويمكنهم من شغل وظائف لا يستحقونها، وبالتالي يؤدون مهامهم بشكل خاطئ وربما يتسببون بأخطاء ومشكلات كارثية ثم يفلت كثيرٌ منهم من العقاب والمحاسبة لنفس الأسباب التي مكنته من استلام الوظيفة.
وهذا يعني بلا شك أننا بحاجة إلى مستوى أعلى وأدق من مهارات تقييم الأداء وقياس الكفاءة والفاعلية إلى الحد الذي يحول أو يقلل من نسبة تكاثر أمثال هؤلاء في جميع المؤسسات المهنية والتعليمية بمختلف أشكالها.
نحن بحاجة إلى مدراء ماهرين يتحلون بنظرة حصيفة وثاقبة تفرّق بين العمل الحقيقي الفعال، وبين البهرجة البراقة (فليس كل ما يلمع ذهبا).
وأود أن أؤكد أني تعمدت إغفال بعض التفاصيل الممتعة في لوحة “سوسو السفاح” لمن لم يشاهدها، هذا وأتمنى لكم مشاهدة ممتعة، وحياة مهنية صحية.
* طالب دكتوراه، علم اجتماع، جامعة الملك عبدالعزيز.








