سيرة طالب 120] قصتي مع خطيب

الشيخ علي الفرج
الخطابة الدينية من أخوف الميادين مغبّة، إذ يكفي أن يطأ الخطيب درجات المنبر حتى يتحول في أعين الناس وقلوبهم إلى صورة يُحتذى بها، وقدوة تُتبع، شأنه شأن العالِم الذي تُصغي النفوس إلى منطقه قبل الآذان. فالناس بطبعهم يأنسون للكلمة إذا خرجت من فم صاحب عمامة، أو انسابت من لسان يحمل خطابًا دينيًا، فيرون في هيئته قبل عبارته ظلًا من الدين الذي ينطق باسمه.
وأتذكر والدتي، حفظها الله وأبقاها، إذ رأت صورة ثلاثة من الخطباء مجتمعين على مائدة واحدة، التفتت إليّ بلهجة الأم المشفقة قائلة: اذهب واستفد منهم، فإنهم خير الناس… فالرجوع عن مجالسهم خسارة لا تُستدرك.
وكانت كلماتها تلك تؤكد بداخلها أن المنبر مرآة يقاس بها الشخص المتدين.
لقد تشكل وجدان شبابنا وكبارنا، وتربت ذائقتهم الدينية، على ما يتردد إلى مسامعهم من فوق المنابر؛ فالعالم، ما دام خطيبًا، يغرس في العقول ما يحمل من تصورات، وينفخ في الأرواح ما يعتنقه من رؤى: فإن كان فكره فكر اعتدال هذّب النفوس وصفّى مداركها وأطفأ نيران الغلو في صدورها؛ وإن كان فكره فكر تطرف وغلو أشعل فيها ما لا يُطفأ بسهولة من أوهام وتشنجات.
فمسؤولية الخطيب كمسؤولية العالِم في التساوي، بل ربما الأول أثقل كفة؛ لأن صوته يكرر بترسيخ أو يبلغ من القلوب ما لا تبلغه صفحات الكتب أو بحوث المساجد.
قصتي مع خطيب
أعرف شخصيًا من الخطباء من هم ألواح نقية من الورع، تصدق أفعالهم أقوالهم.
غير أن قلة من الخطباء خواء، في الأخلاق، وهم نادرون بحمد الله وإن كانوا مؤلمين، ومن بين هذه القلة خطيب مشهور الصيت، لم يجمعني به إلا لقاءان لا ثالث لهما، وكانا كافيين لأن يتركا في القلب أسًى صامتًا.
القصة الأولى
دخلت ذات صباح في أول ساعات الدوام إلى البنك، فإذا بي أراه هناك، فبادرت بتحية تليق بما يفترض في مقامه. كان يعالج أمرًا بنكيًا، فقال له الموظف: اتصل بولدك، فهو أعرف بهذا الرقم.
وما إن رفع الهاتف حتى انطلقت من فمه كلمات حادة، يوبخ بها ابنه توبيخًا قاسيًا، وبصوت يكاد يسمعه من في البنك جميعًا.
وقفتُ أصغي، لا إعجابًا ولا استحسانًا، وإنما دهشة وأسًى؛ لم أر في المشهد سوى تهوين لحرمة الأبناء، وغلظة لا تليق ببشر بسيط في سوقه، فكيف بمن يتصدى لتهذيب الناس بأخلاق النبي (ص) وآداب أهل البيت (ع) في تلك اللحظة سقط الرجل من عيني سقوطًا لا نهوض بعده في وجداني، وقلت في نفسي: لعل جدران بيته قد ألفت هذا الصوت حتى صار جزءًا من هواء المنزل. وعلى كل حال فالواجب الأخلاقي أن (نعذّره)، كما روايات أهل البيت (ع)، ولكن في قلبي حرقة.
القصة الثانية
وفي ظهيرة يوم آخر، كنت في سوق السمك أحدث أحد طلبة العلم المعروفين بحسن الخلق وسمت السلوك. كان الحديث بيننا يدور في شأن اجتماعي، ونحن عند بائع اعتدت الشراء منه، فإذا بالخطيب نفسه يمر بنا. سلّم علينا بكياسة مألوفة، فرددنا التحية بما يليق بمقامه. كنا ثلاثة، غير أن مسار الحديث ما لبث أن مال كله إلى الطالب وحده؛ فإذا به يناجيه ويخصه بالكلام بصوت مهموس، وكأني لست بينهما.
أدركت الموقف فتنحيت غير بعيد، وسألت البائع عن أنواع السمك وسعرها؛ لا رغبة في الشراء، بل كي لا أكون ثالثًا مهجورًا يدير الحديث عنه ظهره.
وحين انصرف الخطيب، التفتُ إلى صاحبي وقلت:
ـ أليس الفقهاء يذكرون كراهة مناجاة اثنين دون الثالث؟
فأجابني معتذرًا، بين الحرج والصدق:
ـ لقد أحرجني فعله معك… هو لا يلتفت إلى مثل هذه الدقائق.
أقول: هو يلتفت إلى دقائق الأمور، غير أن طبعه، على ما يبدو، مطبوعٌ على اللامبالاة في أمور الدين… هكذا هو.
ما وراء القصتين
هاتان القصتان هما كل ما جمعني بهذا الخطيب، وما خفي عني وعن الناس أعظم، ولا أحب التكهن بما لا أعلم. غير أنهما، مع بساطتهما، تكفيان للدلالة على أن الخلل ليس زلة لسان عابرة، وإنما سلوك مستقر، ويظهر في فلتات لسانه حتمًا.
ومن كان هذا شأنه خيف منه على المنبر؛ لأن المنبر أمانة دين تُحمل، والكلمة حين تخرج من غير أهلها لا تجرح الآذان فقط، وإنما تخدش وجه الدين في قلوب البسطاء، فيظنون أن ما يرونه من قسوة الخلق شيء يأذن به الشرع، وأن غضب اللسان من غضب السماء.








