1] العراق الذي لا أعرف: لا سواد في السواد

حبيب محمود

أن تزور العراقَ في سن الثامنة والخمسين، وكلُّ ما في خبرتك عنه يعود إلى سن الثانية عشرة.. فحتماً حتماً؛ لن تستوعب ـ بسهولة ـ التحولات التي صنعتها لك نشرات الأخبار، منذ أول رصاصة في حرب السنوات الثمان، مروراً بكارثة احتلال الكويت وتبعاتها، مروراً بسنوات الحصار، مروراً باقتلاع نظامه القديم في 2003، مروراً بزلازل الأحداث وارتداداتها، مروراً بتقاسم السلطة، مروراً بالملفات المعقدة بين أمريكا وإيران..!

سوف تتكرر كلمة “مروراً ومروراً ومروراً”؛ حتى تصل إلى كلمة “وصولاً” إلى أول إطلالة من ذهب القباب؛ بعد هذا كله..!

قبة الإمام علي من جهة باب القبلة

أقدم زيارة لي كانت في العام 1400 هجرية. والزيارة الأخيرة في العام الجاري 1447هـ. إنها 47 سنة هجرية بالتمام والكمال. وباللغة الميلادية 45 سنة.

كنتُ طفلاً لم يبلغ الحُلُم بعدُ، وها أنا صرتُ جدّاً يُدلّل ستة أسباط من الذكور والإناث.

50 فلساً.. كانت تساوي نصف ريال سنة 1980

وكلُّ ما في رأسي يذكّرني بـ 50 فلساً كانت المرحومة أمي تعطيني إياها مصروفَ جيبٍ كلّ يوم. كانوا يسمّون هذا المبلغ “درهم”. وكان يكفيني هذا الدرهم، حين كان للدينار وزنٌ يُحسَب بـ 1000 فلس، وحين كانت أصغر وحدة نقدية، في العراق، هي 5 فلوس، ثم 10، ثم 25، ثم 50، ثم 100، ثم ربع دينار. والربع يعادل 5 دراهم..!

5 فلوس.. كانت تشتري “استكانة” شاي.. الآن لم يعد لها وجود

وكلُّ هذه العملات تضاءلت قيمتها، جرّاء التضخم، وتمّ إلغاؤها في العام 2004م.

وبما أن العراقيين من شعوب إدمان “الْچَاي والجّگاير” في المقام الأول، فإن 5 فلوس كانت تشترى “استكانة” شاي، سنة 1980. وبـ 10 فلوس يُشترى رغيفُ خبزٍ. ولك أن تتخيّل طفلاً وما يفعل بـ “درهم” يعادل ـ سنة 1980 ـ نصف ريال سعودي..!

في العام 2025؛ لا وجود لأيّ عملة بفئة “دينار” بتاتاً. أصغر عُملة متداولة هي ما يسمونه “رُبُعْ”، وهي تعني 250 ديناراً..! وهذه العملة “المئوية” كانت تعادل 2500 ريال سعودي في العام 1980م. أما الآن فبالكاد تكفي لشراء عبوة ماء سعة 300 مل..!

تبدو مثل هذه المقارنة عبثاً خالصاً، بيد أنّها انقياد تلقائي من زائرٍ ـ مثلي ـ لم يعرف العراق ـ طيلة 47 سنة ـ إلا من خلال الإعلام، وإفادات الزوار، وما يتناثر من معلومات وأغاليط واحتدامات وتراشق، وأخلاط متشابكة من العواطف والمواقف والضجيح المستمرّ..!

حالياً؛ 1000 ريال سعودي يساوي 370 ألف دينار عراقي

ليست العملة النقدية وحدها هي ما تغيّر وتحوّل بالطبع. أجيال متعاقبة عبرت كلّ هذه العقود التي مرّت مشحونةً بالإحن والمحن والألم والدعك والضرب والتضارب والمُضاربات. وكلُّ ذلك تحوّل وحوّل، وتغيّر وغيّر، وتأثّر وأثّر. وقد بدا ذلك جليّاً منذ خطوات المشي الأولى التي عبرنا فيها الجانب الكويتي “العبدلي”، ووطأت أقدامنا أرض العراق في “سفوان”..!

الطريق الدولي بين كربلاء والبصرة.. بلا نخيل ولا خُضرة

الخيبة الأولى في أرض السّواد..!

من ذاكرة مُشبعة بمشاهدات بين عامي 1978 و 1980، ومن خلال ثلاث سفرات عراقية سابقة؛ انتهيت إلى إحساس خاص يرى أن المحظوظين هم الذين عبروا الجنوب العراقيّ برّاً. الذين عبروا أرض السواد، وشاهدوا حرّاثة “عنترْ” ناشطة في الحقول.

وثمة حقلٌ في ذاكرة العين والقلب ماثلٌ منذ 1978؛ حين عبرت بنا سيارة “سوبربان” متهالكة فردوساً هندسته الأيادي السمراء، وزاوجت فيه بين طبع الأرض ومزاج السماء..!

كنتُ في العاشرة، وشاهدتُ المناظر من زجاجِ نافذة السيّارة.

وحين بدأت إجراءات السفر إلى العراق، هذا العام، استبعدتُ خيار السفر عبر الطيران، لأن الرغبة مهيّأة لعبور السواد كله، من سفوان إلى بغداد. أريد المرور مجدداً بتلك الوجوه المتلفّعة بالسواد، الموشومة بخُضرة منقوشة أسفل الأذقان.. ووجوه “الزِّلِمْ” بما على رؤوسها من عقالاتٍ ثخينة، وما على أكتافها. كلُّ ذلك وسط الخضرةِ المنقوشة على سُمرة الأرض، وحواف الماء، وبين قامات النخيل..!

هكذا رأيتُ العراق وسواد جنوبه في تلك السنوات. ومن أجل هذا الحنين القديم؛ وضعتُ خطة الرحلة، أن أقود سيارتي من القطيف إلى منفذ “العبدلي” الكويتي. ثم ننتقل إلى منفذ “سفوان” العراقي، وبعد الإجراءات الحدودية المعتادة؛ نستقلّ سيارة من “سفوان” إلى النجف.

كلُّ تخيلاتي توقعتْ جنوب العراق الأخضر الذي أعرفه. وحين وصل سائقنا بسيارته الـ “دوج”؛ عبر بنا طريقاً سريعاً برّياً خالياً من العراق الأخضر..!

إنها أولى الخيبات..!

إنه ليس العراق الذي أعرف..!

حافلات تنقل المسافرين من “العبدلي” الكويتي إلى “سفوان” العراقي

ركبنا هذه السيارة من سفوان إلى النجف مقابل 100 دولار

نهر الفرات في طريق الحلة (محافظة بابل).. لقطة عاجلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×