الأطفال يبدأون التفكير أبكر مما نظن
ترجمة: عدنان أحمد الحاجي
قدم له رضي حسن المبيوق، برفسور علم النفس التربوي السابق، جامعة شمال أيوا
المقدمة
هذا المقال القيم الذي يشيد بنظرية بياجيه عن تطور تفكير الطفل الإدراكي، ويبني على نظريته، ويضيف إليها نتائج تعزز قدرة الأطفال على التفكير المنطقي في وقت مبكر من حياتهم (أبكر مما ذكره بياجيه في نظريته). اعترف بياجيه في حياته بأن الإطار الزمني للمراحل الأربع التي تغطيها نظريته هي اطارات عامة ومرنة ولم يقصد بها أن تكون جامدة أو خالية من شواذ.
أحد طلبة الدكتوراه الذي أشرفت على رسالته أجرى دراسة لمعرفة طرق حل أو استراتجيات حل المشكلات (problem solving strategies) الطالب هو الآن أستاذ مشارك في قسم علم النفس التربوي في جامعة البلقاء التطبيقية في الأردن ويركز أبحاثه على الطفولة المبكرة (1 – 3 سنوات).
الدكتور زيد الكوري اختار لمشروع الدكتوراه مرحلة الدرج toddlerhood بإعتبارها مرحلة مهمة جدًا، حيث يتطور جانب كبير من الدماغ وينمو خلال هذه المرحلة العمرية، وهذا بدوره يزيد من إدراك الطفل، بحيث يبدأ التواصل باستخدام كلمات ومن ثم عبارات مكونة من كلمتين أو ثلاث، ومع نهاية هذه المرحلة يزيد كلامه وضوحًا وفهمًا للآخرين، وخاصة لدى الكبار (1). وفي هذه المرحلة أيضًا يتطور وينمو الطفل بدنيًا وذهنيًا، ولغويًا، وعاطفيًا، واجتماعيًا. كما أنه يبدأ بالشعور بالاستقلالية ويزداد فضوله وتكثر أسئلته.
ولهذا ركز الدكتور زيد الكوري على هذه المرحلة لدراسة الإستراتيجيات التي يستخدمها الأطفال (2). نتائج دراسته تفيد بأن الأطفال بين 18 شهرًا إلى سنتين يميلون إلى إستخدام استراتجية المحاولة والخطأ في الحل، ومن ثم يستخدمون النموذج المباشر لحل المشكلات أو المسائل أو المهام، وأخيراً يستخدمون طرقًا منطقية، كما ذكر في الدراسة المترجمة أذناه، وتّعرف تلك الأستراتيجية بانتهاج وسيلة معينة للوصول إلى غاية محددة means-to-ends. ووجد الدكتور زيد في دراسته أن الكثير من الأطفال الذي تجاوزوا السنتين كانوا قادرين على استخدام هذه الطريقة لترتيب أشكال هندسية مختلفة الحجم من الأصغر حجمًا وإنتهاءً بالأكبر حجمًا، وكذلك العكس، كما أنهم كانوا قادرين على استخدام استراتجية الرص stacking لرص جفان مختلفة الحجم فوق بعضها من الأكبر إلى الأصغر.
نتائج الدراسة التي نشرها الدكتور زيد الكوري (2) تتماهى مع نتائج الدراسة القيمة المترجمة أدناه
الدراسة المترجمة
كنتُ في مقهىً حين فتح طفلٌ حقيبة أمه مُبعثرًا محتوياتها في كل مكان – على الطاولة، والمقعد، والأرض، بحثًا عن حلاوة فاكهة. بدا المشهد فوضويًا وخارج عن السيطرة. لكن في النهاية، كان عمليًا، حيث وجد الطفل ما كان يبحث عنه. والسؤال المثير للاهتمام كيف يُمكن للفوضى أحيانًا أن “تُجدي نفعًا.”
الأطفال مولوعون بالتفكير الإبداعي وغير التقليدي، وقد يبدو للوهلة الأولى فوضويًا وغير منظم. هذا السلوك الفوضويّ في الظاهر كان مصدر إلهام لنظرية باحث علم النفس التنموي جان بياجيه Jean Piaget الشهيرة (3)، وهي أن الأطفال يبنون معارفهم من خلال الاستكشاف والتجربة والتفاعل المباشر مع المحيط، ولابد أن يمروا بأربع مراحل متتالية، يفتقر الأطفال في المرحلتين الأوليتين منها إلى القدرة على التفكير المنطقي المنظم؛ بل يتعلمون من خلال تجربة الأشياء، ويتطور تفكيرهم على مراحل، لا دفعة واحدة. فما يبدو سلوكًا “فوضويًا” في المراحل المبكرة من الحياة هو في الواقع جانب من عملية طبيعية وضرورية للتعلم والنمو الإدراكي للطفل، بحسب نظرية بياجيه في النمو الإدراكي (4 – 6).
ما يزال بياجيه يُمثّل عالم النفس التنموي الأعظم على مر العصور.” لقد غيّر وبشكل جذري نظرة العالم إلى الأطفال وإلى الأبد، مُبيّنًا أن الأطفال لا يدخلون العالم بنفس المفاهيم الأساسية التي راكمها الكبار، بل عليهم بناء أو مراكمة هذه المفاهيم خطوة بخطوة، وذلك من خلال التجربة والخطأ. لقد قام بعمل جبار لم يسبق لأحدٍ أن قام به في جمع كمّ هائل من سلوكيات الأطفال الغريبة. فقد لاحظ بياجيه ووثّق الكثير من تفكيرهم وتصرفاتهم الفريدة، والتي غالبًا ما تكون مضحكة أو مدهشة، وما يزال الباحثون المعاصرون يلاحظون نفس الأنماط من التصرفات لدى كل طفل من أطفال اليوم، مما يعني أن نتائجه كانت دقيقة ولا زالت صحيحة.
بالرغم من كون بياجيه محقًا تمامًا في ملاحظة أن الأطفال يمارسون طيفًا واسعًا من السلوكيات غير المألوفة، كشف فريق البحث الذي يعمل معي مؤخرًا عن أدلة قلبت بعض الافتراضات الراسخة من عمل بياجيه حول حدود قدرات التفكير المنطقي للأطفال، رأسًا على عقب. وصفت ورقتنا البحثية الجديدة المنشورة في مجلة “نتشر سلوك الإنسان Nature Human Behaviour” (7) كيف يتمكن الأطفال الصغار من إيجاد حلول منهجية للمسائل المعقدة دون تلقي أي تعليمات من الكبار. وتفيد الدراسة الجديدة بأن الأطفال أكثر قدرة على حل المسائل أو المشكلات بشكل منطقي وفعال مما كان يعتقده بياجيه، وأنهم قادرون على فهم الأمور المعقدة بأنفسهم، دون الحاجة إلى توجيه.
مقطع فيديو: وصف بياجيه كيف يتمكن الأطفال من أعمار مختلفة من تصنيف أو ترتيب الأشياء بدرجات متفاوتة من النجاح.
ترتيب الأشياء
خلال ستينيات القرن الماضي، لاحظ بياجيه أن الأطفال الصغار [بسن ما قبل المدرسة] يعتمدون على أساليب ساذجة من التجربة والخطأ [طريقة التجربة والخطأ هي لتحقيق هدف أو حل مشكلة بتجربة عدة أساليب مختلفة والتعلم من الأخطاء]، ولا يعتمدون على أساليب منهجية في محاولتهم ترتيب أشياء وفقًا للبعد الكمي (القابل للقياس) المتسلسل، مثل ترتيبها حسب الطول من الأقصر إلى الأطول، إذا طُلب من طفل في سن الرابعة ترتيب العصي من العصا الأقصر إلى الأطول، فسيحركها بشكل عشوائي، ولا يستخدم خطة واضحة أو أسلوب منطقي (مثل مقارنة أطوالها) في الترتيب. ما يؤدي عادةً إلى ترتيب فوضوي ينتهي بالفشل في المهمة الموكلةً.
فسر علماء النفس سلوك الأطفال الصغار غير الكفوء في هذا النوع من مهام الترتيب – والذي يعرف بالترتيب المتسلسل (8) – كمؤشر على عدم قدرتهم على استخدام أساليب منهجية في انجاز المهمة حتى بلوغهم سن السابعة على الأقل. وأن هذا كان يُعتبره علماء النفس، ولفترة طويلة، دليلًا على أن الأطفال دون سن السابعة لا يمتلكون بعد القدرة على التفكير بطريقة منظمة ومنطقية في محاولتهم حل بعض المسائل أو انجاز المهام. وأن القدرة تتطور بشكل منهجي في سن السابعة أو ما بعدها.
وخلافًا للبديهة إلى حد ما، وجدت أنا وزملائي في فريق البحث أن زيادة صعوبة ومتطلبات المهمة الذهنية لعمل الترتيب المتسلسل حفزت الأطفال الصغار في الواقع على اكتشاف طرق منهجية (منطقية ومنظمة ذات خطوات محددة) للحل، وليس طرق تخمينية عشوائية أو فوضوية.
في تجربة بياجيه الكلاسيكية، طُلب من الأطفال ترتيب أشياء (مثل العصي) حسب طولها – وهي مهمة بسيطة نسبيًا.
لكن في التجربة الجديدة، هويوين أليكس يانغ Huiwen Alex Yang، طالب دكتوراه في علم النفس ويعمل على نماذج التعلم الحاسوبية في الفريق البحثي، زاد من صعوبة التجربة وذلك بتصميم لعبة حاسوبية تساعد الأطفال في معرفة ما إذا كان الترتيب صحيحًا حتى يتمكن من تعديل طريقته في المحاولة التالية.
طلبت اللعبة من الأطفال ترتيب دمىً تشبه أرانب من الدمية الأقصر إلى الدمية الأطول بالنقر على أحذيتها لتبديل أماكنها. الدمية لا تبدل مكانها إلا إذا كان تسلسل ترتيبها خاطئًا، وإلا بقيت في مكانها. ولأنهم لم يروا سوى أحذية الأرانب لأنها كانت مخبأة وراء الجدار، وليس حجمها، اضطر الأطفال إلى الاعتماد على الاستدلال المنطقي بدلًا من الملاحظة أوالرؤية المباشرة لترتيب الدمى. اختبر يانغ 123 طفلًا يتراوحون بين 4 و10 سنوات.
مقطع فيديو؛ الباحث هويوين أليكس يانغ يختبر الطفل ميرو Miro ، البالغ ثمان سنوات، في مهمة ترتيب الأرانب المختبئة خلف جدار ولا يظهر منها سوى أحذيتها. تُجسّد اختيارات ميرو استخدام الترتيب بالاختيار، وهي خوارزمية ترتيب كلاسيكية فعّالة من علوم الحاسوب. جامعة كاليفورنيا، بيركلي.
وضع استراتيجية
وجدنا أن الأطفال اكتشفوا وطبقوا بشكل مستقل خوارزميتين معروفتين على الأقل للترتيب. هاتان الاستراتيجيتان – المعروفتان بالترتيب الانتقائي (9) والترتيب بالخلط (10) – تُدرسان عادةً في علوم الحاسوب (11).
أظهر أكثر من نصف الأطفال الذين اختبرناهم دلائل على التفكير الخوارزمي (12) المنطقي المنظم، وذلك في سن لا يتجاوز الأربع سنوات. وبينما كان الأطفال الأكبر سنًا أكثر ميلًا لاستخدام الاستراتيجيات الخوارزمية، فإن نتائجنا تتناقض مع ما كان يعتقده بياجيه بأن الأطفال غير قادرين على هذا النوع من التخطيط الاستراتيجي المنظم قبل سن السابعة. فقد رأى بايجيه أن الأطفال بحاجة إلى الوصول أولاً إلى ما أسماها المرحلة العملية الملموسة من التطور الإدراكي (13، 14).
تفيد نتائجنا بأن الأطفال قادرون بالفعل على اكتشاف الاستراتيجيات المنطقية تلقائيًا في وقت أبكر بكثير من سن السابعة عندما تتطلب الظروف ذلك. في مهمتنا، لم تنجح استراتيجية التجربة والخطأ لأن الأشياء المطلوب ترتيبها لم تكن قابلة للملاحظة المباشرة (حيث كانت مخبئة خلف الجدار ولا تظهر إلّا أحذيتها)؛ ولم يتمكن الأطفال من الاعتماد على إدراكهم الحسي (البصري) الشخصي المباشر حينئذ.
يتطلب تفسير نتائجنا تفسيرًا أكثر دقة لبيانات بياجيه الأصلية. فالبرغم من أن الأطفال يفضلون حلولًا للمسائل التي تبدو أقل منطقية خلال المرحلتين الأوليتين [المرحلة الحسية الحركية حتى السنة الثانية، ومرحلة ما قبل العمليات والتي تبدأ من السنة الثانية إلى السابعة] من مراحل بياجيه الأربع للتطور الإدراكي (3)، فإن ذلك لا يعني عجزهم عن اتخاذ قرارات أخرى إذا اقتضت الحاجة.
مقاربة منهجية للحياة
يُعد التفكير الخوارزمي (12) أمرًا بالغ الأهمية، ليس فقط في مادة الرياضيات المتقدمة، بل في الحياة اليومية أيضًا. تخيل أنك بحاجة إلى خبز 24 كعكة، لكن وصفتك المفضلة لا تكفي سوى لـ 12 كعكة. بإمكانك تكرار جميع الخطوات لتحضير الوصفة مرتين، لكنك لن تفعل ذلك أبدًا لأنك تعلم أن ذلك سيكون غير كفوء. ولكن بدلًا من ذلك، ستضاعف المكونات وتعمل كل خطوة مرة واحدة فقط. التفكير الخوارزمي يجعلك قادرًا على التعرف على طريقة منهجية لتلبية الحاجة إلى مضاعفة عدد الكعك، مما يُحسّن كفاءة عمل الكعك.
التفكير الخوارزمي قدرة مهمة ومفيدة للأطفال أثناء مرحلة تعلمهم الحركة والتفاعل مع العالم المحيط (المرحلة الأولى من مراحل بايجيه)، ونحن نعلم الآن أنهم يكتسبون هذه القدرات في وقت أبكر بكثير مما كان يعتقده علماء النفس حينئذ (بايجيه). قدرة الأطفال على الانخراط في التفكير الخوارزمي قبل التعليم الرسمي (دخول الصف الأول الابتدائي) لها تبعات مهمة على تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). يحتاج أولياء الأمور والمعلمون الآن إلى إعادة النظر في متى وكيف يمنحون الأطفال فرصة للتعامل مع مسائل ومفاهيم وأفكار مجردة (غير ملموسة).
لأن الأطفال الصغار (حتى في سن ما قبل المدرسة) قادرون بالفعل على التعامل مع مسائل منظمة أو مُهيكلة، والتي تتبع تسلسلًا منطقيًا، ويُمكن حلها باستخدام أساليب أو طرق معروفة ببساطتها، مثل تصنيف المكعبات حسب اللون أو الحجم أو حل أحجية بسيطة. أو حل مسألة جمع حسابية بسيطة في وقت مُبكر من حياتهم، علينا أن نبدأ بتعليمهم مُبكرًا لتعزيز قدراتهم في الرياضيات والحاسوب لاحقًا لمساعدتهم على بناء أساس متين لقدراتهم المُستقبلية في مجالات مثل الرياضيات والحوسبة.
لا بد أن تتحلى بالصبر والتفهم في تعاملك مع أطفالك الصغار وهم يستكشفون محيطهم ويتعلمون منه. حين يقوم الأطفال بأشياء تبدو فوضوية أو عشوائية أو مزعجة (مثل رمي أو إسقاط أشياء أو كسرها أو لمس كل شيء في المكان)، فهذا ليس مجرد سلوك عشوائي، بل هو في الواقع جانب من محاولتهم لتعلم كل شيء في المحيط وفهمه. لذا، حتى لو شعرت بالانزعاج بعد أن تسبب فضول طفلك في إسقاط أو كسر أشياء، حتى لو كانت ثمينة، حاول أن تتذكر أن هذا النوع من الفضول والاستكشاف هو يطور بها الأطفال تفكيرهم المنطقي والخوارزمي. بمرور الزمن، سيصبح سلوكهم أكثر منطقية وتنظيمًا، لكن هذه المرحلة الأولية الفوضوية خطوة مهمة نحو ذلك التطور.
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- https://raisingchildren.net.au/toddlers/development/language-development/language-1-2-years
2- https://scholarworks.uni.edu/etd/248/
3- https://www.britannica.com/biography/Jean-Piaget
4- https://www.scribd.com/document/679450063/نظرية-بياجيه
5- https://ar.wikipedia.org/wiki/نظرية_بياجيه_في_التطور_المعرفي
6- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0273229715000325?via=ihub
7- https://doi.org/10.1038/s41562-025-02302-6
9- “الترتيب المتسلسل seriation هو القدرة الذهنية على ترتيب الأشياء أو الأحداث بترتيب معين بناءً على سمة معينة، مثل الطول أو اللون أو القيمة. تُعد هذه المهارة أساسية لفهم التسلسلات والعلاقات بين الأشياء، مما يساعد الشخص على تنظيم أفكاره وعمل مقارنات صحيحة.” ترجمناه من مصدر ورد على هذا العنوان؛
https://fiveable.me/key-terms/introduction-cognitive-science/seriation
9- https://ar.wikipedia.org/wiki/ترتيب_انتقائي
10- https://wiki.hsoub.com/Algorithms/Sorting_Algorithms
11- https://www.science.org/doi/10.1126/science.abn0915
12- “التفكير الخوارزمي algorithmic thinking (هو منهجية لحل المسائل تنطوي على اتخاذ مجموعة من الخطوات المعينة والواضحة والمرتبة بشكل متسلسل لتنفيذ عملية أو حل مسألة معقدة.” ترجمناه بتصرف من نص ورد على هذا العنوان:
https://equip.learning.com/computational-thinking-algorithmic-thinking-design-thinking
13- https://ar.wikipedia.org/wiki/نظرية_بياجيه_في_التطور_المعرفي
14- https://www.britannica.com/science/concrete-operational-stage
المصدر الرئيس
https://theconversation.com/children-can-be-systematic-problem-solvers-at-younger-ages-than-psychologists-had-thought-new-research-266438