عيش “لِمْحَمَّرْ”.. من “لِسْريدان” إلى مطابخ البيوت طبخات على فنّات الخشب

حسن دعبل

عيش امْحمّر بالدبس: برنيوش

ومن عُرْف أهل الغوص والبحر، أنه إذا “خَنس” أو مرض أحد “البحرية”، تُؤخذ مَدّة راهية من العيش، ثمّ تُرمى في البحر، وهم يتناولون غداءهم بتمتمةٍ: سهمك فيه العافية.

ولأن الماء شحيح، اختاروا من الطبخات ما يقتصدونه، ويدّخرونه لعطش القيظ وملوحته. فلم يكن غير التمر زادهم وزُوّادتهم، والأسماك صيدهم.

“مَرّگوا” عيشهم بالدّبس، وما سال من قِلال التمر المكنوزة في “خِنّ” خشبهم؛ فاحمرّ العيش وفاضت حلاوته بريق حلوقهم المالحة، فاستطابوه أكلاً، وقوّةً لأبدانهم.

العيش “لِمْحمّر” لم يُطبخ في البساتين وبين أفياء النخيل، ووفرة الماء والتمر ودبسه السائل.

بل طُبخ على فنّات الخشب، وبحذر الخوف من السوايب، طُوّقت القدور بحبالٍ غليظة محفوفة بنارٍ داخل بطن “لِسريدان” المُخصّص لطبخه ورائحته. فعيش لِمحمّر طبخة بحريّة خالصة، واقتصادية مُشبعة للبطون الجائعة، والأبدان المصبوغة بالشمس والملح.

وكأي سفينة رحّالة بين البحار، فقد سافر واستوطن الأسياف، والبيوت العبقة بروائح الأسماك، وبهارات التوابل؛ أبحرت وخطفت بها السفن الشراعية منذ القدم، وسافرت الأبوام مُحمّلة بين الفرض والبنادر.

ولأنه مُتفرد في طبيخه وأكله، لم تختطفه الأيدي، ولم تقدّسه المرويات العابرة، المُستأنسة للونه قبل حلاوته، ولم تذقه أو تُقاربه في طقوسها.

لكنه يُذكر ويُستأنس بحلاوته، عند مناسبات الأعياد، وعند الزواج في بعض المناطق البحرية؛ قبل أن تندثر وتتناسى أيامها وليالي حُوّالها، وتتمادى بها تحولات التمدن، وتتناقص الأفراح غفلة من لياليها الزاهية.

لذا بقي عيش لِمحمّر في ذاكرة البيوت، حتى بعد موت الغوص وهجرة المهنة، ونسيانها إلا من الحنين، والعودة للأسفار والذكريات بالملذات والغناء.

هامش:

* لِسريدان أو السريدان: هو المكان المخصص للطبخ في المحامل و سفن الخشب.

محمّر برنيوش بالدبس وسمچ حامر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×