الأحساء بين الذاكرة والروح: رحلة في خفايا المكان قراءة انطباعية في المجموعة القصصية "الأحساء خفايا الأرواح" للكاتب عبدالله النصر

زهراء المدن
المجموعة عبارة عن قصص معنونة بأسماء لمعالم أثرية في مدينة الأحساء شرق المملكة العربية السعودية، وحين يتناولها القارئ، يشعر وكأن روحه في جولة سياحية داخل المدينة، يتنقل بين صخورها وجدرانها ومياهها، يلمس نبض المكان ويتعايش مع روحها كما لو كان حاضرًا فيها.
في معظم القصص، استخدم الكاتب العنصر الذكوري، فيما ظهرت شخصية نسائية واحدة فقط في قصة واحدة، مع وفرة من التشبيهات الإبداعية التي ترجم فيها بين الطبيعة والبشر، وبين الجماد والروح. ففي واحة الأصفر، شبّه الليل بالغُربان، وعين القمر المتربصة بعين الإنسان، والرمال كأنهار ميتة، صفات تشخيصية تفتح للخيال آفاقًا واسعة.
أما وصف البحيرة على لسان سعيد فكان (كذهب قديم)، دلالة على بريق الذهب المختلف عن اليوم، إشارة لطريقة تسمية البحيرة. ووصفها القاص كالزعفران، فيما رأى عزيز أنها تخفي الكثير تحت طينها، موضحًا كيفية استفادة أهل الأحساء منها وابتلاعها للناس، مع لمسة من الأجداد الذين يتهامسون عنها لتفاجئنا الأحداث لاحقًا.
في سليسل العظيم، شبه الأحساء بالإنسان النائم، مستخدمًا أسماء أحسائية مصغرة (كاظم إلى كويظم، وطاهر إلى طويهر)، إشارة متعمدة لإبراز الموروث المحلي حتى في الأسماء. تتحدث الشخصيتان عن جفاف النهر وتحوله إلى تراب مالح، وفي المشهد يبتلع النهر كويظم، كأن القاص يريد أن يخبرنا بأن الأرض بما تحويه من بحيرات وأنهار تريد للإنسان أن يعود ليحييها، كما قال: (الأرض لم ترد كويظم فقط بل شيئًا كان يحمله معه).
يأخذنا القاص بعد ذلك إلى المدرسة الأميرية، حيث التشبيهات الإبداعية، فـ(الهواء كتنهيدة)، و(لم يحدث بقصصه أحد)، صفات للإنسان، فيما الصمت بين أعمدة ونوافذ وشرفات المدرسة الأميرية يبدو ثقيلًا، لأنه لم تعد فيه حياة ولا أمل، وكأن القاص يعيدنا إلى زمن كانت فيه المدرسة حية، لنسترجع مع حسن الصفوف والتلاميذ الذين لم تعد فيهم حياة، لتتصاعد الأحداث مع ما يقرأه حسن في الرقعة.
ثم يطلق القاص أرواحنا مع قيصرية الأرواح. في هذه القصة، يستخدم صيغة المتكلم، ويصف المكان من خلال الروائح المتناقضة، لتتحرك الشخصية داخليًا بين التساؤلات والأفكار، في حوار مع الذات.
وفي صمت العقير، نلتقي بنسائم الزمن الماضي، حيث يعود القاص للمياه، ويضع صورة لشاطئ العقير بصمت البحر، مع حركة الأمواج وصور السياح، ورحلة جماعية من الرجال، وليس فردًا واحدًا كما في القصص السابقة، مع ذكر أماكن قريبة مثل مبنى الجمارك، الميناء، مبنى الإمارة، وبرج أبو زهمول.
ثم في أصداء جواثا، يربط القاص شعور علي بما يختزنه تجاه مسجد جواثا، وفي قيد القصر الأبدي، وهو قصر إبراهيم، كتب عن الجدران والأعمدة والمئذنة والطين، وكأنها (تدغدغ أحشاء حسن وعباس بأنين كأنه نفس عتيق عالق بين حجارة الجدران)، وما يلبث أن تتوالى المفاجآت في همسات الريح.
وفي بيت لن يصدأ (بيت البيعة)، تتحرك الأحداث داخل البيت التراثي و(الأبيض) كما وصفه الكاتب،(ككفن نظيف وهادئ كطفل بريء). أما في المحيرس، ينسج الذكريات، تتوقف، ترتجف، تنفض، تستجيب، لتفتح لنا أبوابها وتروي، فيما يشخص الكاتب الجمادات وكأنها جسد وعقل لا ينسى.
وفي عين بلا عين، يبدأ بالتحدي، ويصف العين (كفم كائن أسطوري نائم منذ الأزل، قعرها يتجاوز العشرين مترًا تقريبًا)، تحمل الأسرار وممرًا سريًا، مع طقوس تقام في الأعراس، ليفاجئنا القاص بأن الروح قد تبقى بلا جسد.
وفي ذاكرة المنتزه، يعود القاص لتشخيص المكان، وكأنه شخص يندب حظه، والأمواج تخيط الحكايا، مشاهد للطير والأسماك والحلزونات، وحوارات البحر وما يجري عليه.
ثم في متاهة وطاقية، يبدأ بسؤال عن هاشم الذي جذبته المتاهة، ويصف دخوله إليها دون مبالاة، مدفوعًا بالجرأة والحماسة ليدفع ثمنها.
أما فك الصخور، فقد اقتصر العنوان على الصخور ذات الفك المفتوح، ويصف جبل القارة الأحسائي وثنايا الصخور وعناقها بالأصابع، مع التناقض بين الظلمة والنور داخل الكهوف وخارجها، فيما مغامر يلتقط الصور بالكاميرا ليصل إلى وادٍ سحيق.
وفي النشاب، يصدح أنين وترنيمة من السائق وسيارته في حديث شاعري عن الجبل، فيما يغني أحد الأصدقاء على ليلاه، فتتحرك الأحاديث مع المعالم إلى نهاية تحمل أنينًا آخر، وحبرًا يسيل من دفتر، ونهاية أخرى تلوح في الأفق.
ويعود القاص في فم العريش لاستخدام مفردة (فم)، وكأن الأمكنة تبتلع الأرواح، فيصف المزارع والعريش وما حوله، مع رائحة النخيل وأدوات قديمة، ليكشف واحة الأحساء بما تحويه من حكايات ومآسي، مع حركة الأسماك والحشرات والنباتات وكأن لها أرواح غاضبة.
في معلم العمدة، يصف تراثه وأصالته وقدامته من خلال فتحة أسماها (الخيشوم)، فتبدأ الحكاية من بعد لتتقارب التفاصيل، ويكشف أحداثًا قبل أربعين عامًا، مع مفاجأة مهنة راوي الحكاية.
وفي بيت القصاب، يروي قصة القصاب وبداية ونهاية أحداثه، مع المفاجآت التي طرأت من الناس والبلد.
حكايات عبدالله النصر في هذه المجموعة تأخذ القارئ إلى زمن مازال يحمل أثرًا، لكنه أثر يبتلع ما في نفوسنا وأرواحنا، تاركًا في أعماقنا صدى وعي عميق، وانطباعًا ممتدًا عن واحة الأحساء وكنوزها المخفية في ذاكرة المكان والزمان.
«القاص الأحسائي عبدالله النصر أبدع في تشكيل صورة حيّة للبيئة الأحسائية، مزج فيها مهاراته السردية مع حسّه الفني الدقيق. التقط تفاصيل المكان والزمان بذكاء، وجعل الصخور والواحات والمزارع تنبض بالحياة. استخدامه لتقنياته القصصية منح النص بعدًا بصريًا ووجدانيًا، يترك القارئ مشدودًا إلى حكايات الأرض والإنسان في الأحساء. إنه قلم يختزن ذاكرة المكان ويحوّلها إلى لوحات أدبية نابضة بالدهشة والجمال، تثري المشهد الثقافي وتؤكد أن القصة القصيرة حين تكتب بصدق وموهبة، تصبح مرآةً للروح ومفتاحًا لذاكرة الأوطان».