الملا أحمد الخميس.. الرحيل العاشر بعد “العَشَرَهْ” عاش 95 سنة.. منها 65 خطيباً.. وتلقّى دروس الحوزة.. وغذّى ثقافته بالآداب

القطيف: صُبرة
بعد 10 سنوات من مقاومة المرض والترجل عن المنبر، وبعد انقضاء أيام عاشوراء لهذا العام توقف قلب الملا أحمد بن الحاج منصور بن علي بن كاظم الخميس، عن عمر ناهز الـ95 عاماً.
واستيقظت سيهات والقطيف هذا اليوم على نبأ وفاته، الذي ترك أثراً واسعاً في مجتمع القطيف. وقضى 65 عاماً من عمره في الخطابة.
عاش الملا الخميس 95 سنة، منها 65 سنة خطيباً وواعظاً وناعياً، حيث ولد في سيهات سنة 1352هـ، وتجرّأ وهو يافع على رفع صوته بنعي علي الأكبر بلطمية “يا محروم يا ابني”؛ وتسلّم مجلسه العاشورائيّ الأول في شويكة القطيف سنة 1378هـ، في مجلس الشيخ أمان، أقامته أسرة “آل حمادة”.
وبحسب تقرير نشرته صُبرة” سنة 2020، فقد ذكر تلميذاه الملا محمد الدرويش والملا علي الباشا أن أستاذهما الخميس بدأ صانعًا، يقرأ المقدمات للملا علي بن سالم في سيهات، عام 1366هـ، وكان قد درس في كتاتيب ومعلمي سيهات وحفظ القرآن الكريم في سن صغيرة على يد الحاج منصور الحلال.
أثّر فيه أستاذه بن سالم تأثيراً كبيراً، ليتجه نحو تطوير نفسه عبر التعليم الحوزوي في سن مبكرة، وبدأ بدراسة متن الآجرومية في سيهات، ثم أخذ يتردد على النجف الأشرف ليقيم فيها بين شهري ربيع الأول وشعبان من كل سنة، واستمرّ على هذه الطريقة سنواتٍ طويلة، ليدرس الفقه واللغة العربية والأصول، لكنّ أكثر الأساتذة تأثيراً فيه هما الشيخ علي المرهون، والشيخ علي الوداعي.
وبحسب ما ذكر تلميذه الملا محمد الدرويش كان يعتزم القراءة في البحرين، إلا أن مرسول الحاج علي السيهاتي قطع سعيه ذلك بتقديمه طلب اعتلاء منبر مجلس السيهاتي كبديل عن المنبر البحريني، ليستمر بعدها قرابة 48 سنة خطيباً على ذلك المنبر الذي اقترن باسمه فترة طويلة من الزمن.
في مجالس سيهات
وعن مجالسه يقول ملا محمد الدرويش “استمر في القراءة لسنوات في مجلس السيهاتي، كذلك في حسينية الكبيش، ثم حسينية الناصر، وخليفة وشاخور، وحسينية الإمام الحسين. أما قراءة العادات فقد لازم بيت الحاج علي زين الدين، والحاج حبيب البوري. كما قرأ في بيت الحاج حبيب الخريدة، بالإضافة إلى دوره في قراءة الفواتح لسنوات طويلة”.
وخارج مسقط رأسه سيهات قرأ الكثير أيضاً، من تاروت حتى صفوى والقطيف وقراها والدمام. كما قرأ في بلدة الحليلة بالأحساء سنة 1958م، وكانت الحسينية الجعفرية من أشهر حسينيات الأحساء التي صدحت أرجاؤها بصوته.
ويكمل الدرويش “كان الملا الخميس يمتاز بكثرة الحفظ والخطابة باللغة العربية الفصيحة، وتفصيل وترتيب السيرة الحسينية، وهو صاحب صوت جميل متمكن في تغيير النعي أو الأبيات على عدة أطوار مختلفة”.
مصادر متنوعة
وكان الراحل الخميس يعتمد على مصادر متنوعة في تحضير مادة خطبه، ولديه العديد من الكتب والمصادر التي يعتمد عليها، منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ نهج البلاغة، ثمرات الأعواد، المجالس السنية، كتاب الغدير للعلامة الأميني، دائرة معارف القرن العشرين، البيان في تفسير القران، تفسير الميزان.. إضافة إلى كتب أخرى من المدارس الإسلامية الأخرى. وكان مطلعا بشكل كبير على الأدب والشعر لكثير من الشعراء كشعر أحمد شوقي وإيليا أبو ماضي وحافظ إبراهيم ومحمد إقبال.
إمام جماعة
وفي كتاب “على أعتاب الحسين” يذكر ملا لؤي سنبل أن “الملا أحمد الخميس أمّ صلاة الجماعة في مسجد أمير المؤمنين علي عليه السلام في سيهات، وكان يعقب الصلاة ليلاً ببحث فقهي الى أن أقعده المرض، فاقتصر في بحثه على المناسبات”.
يُضيف “هو من الخطباء الذين اتجهوا إلى التعليم الحوزوي في سن مبكرة”. ومما درسه من كتب الحوزة متن الآجرومية عند الملا عبد الكريم آل حمود الذي بدأ تعليمه عند الشيخ صالح المعلم، وأخذ الخطابة عن الملا علي آل سالم، وتتلمذ عند الملا أحمد بن رمل والشيخ ميرزا حسين البريكي والملا عطية الجمري والشيخ حسين القديحي، وأتمها عند الشيخ عبد المجيد أبو المكارم”.
كما درس “قطر الندى وبل الصدى”. ودرس “شرائع الإسلام” عند السيد جواد الوداعي البحراني. وبعض أصول الفقه عند الشيخ حسين زاير دهام، والسيد علي الناصر. و “المنطق” حضر بعضه عند السيد مسلم الحلي، و”اللمعة الدمشقية” درس جزءاً منها، كما أنه درس بعض “الكفاية” وحضر بعض من الدروس لدى الشيخ علي المرهون مزاملا للخطيب السيد محمد آل إدريس الصفواني.
وبعد أن أنهى الكتـّاب بدأت عنده الرغبة في الالتحاق بركب خدمة الإمام الحسين، فتوجّه للخطيب الملا عبدالمحسن آل نصر، الذي تلقى مبادئه كذلك عند العلامة الشيخ حسين القديحي وأخذ الخطابة على الخطيب ملا علي آل سالم وملا يحيى الخليفة.
وقد لازم منبر بن سالم حتى وفاته، وكان الملا علي يعطيه القصائد الشعرية، أما المعلومات المنبرية فيستقيها سماعاً من قراءته. ويتذكر أن فاتحة خدمته الحسينية كانت ليلة الجمعة في بيت الحاج حسين الباشا، حيث بدأ بقصيدة في السيدة زينب عليها السلام وهي:
تجنّى عليَّ الحب وهو محبب
وأمرضني وهو الطبيب المجرَّب
ومما يرويه سنبل عن مجالسه “قرأ مجلس عشرة محرم في سيهات بطلب من (الكعكي)، وهو أحد رجال الأعمال من أهل السنة، وفي السنة الثانية اعتذر الملا من وكيل الكعكي لأن لديه مجالس أخرى، فأمر الكعكي بصرف المبلغ المخصص للمجلس لثلج يوزع في مجالس محرم، وكان خلال قراءاته في الدمام عند أهل الأحساء، يستمع له أشخاص من أهل السنة.
شاعر مزدوج
الملا أحمد من الشعراء الذين كتبوا الشعر الفصيح والشعبي، وقد جمع أغلب شعره الذي في أهل البيت ونشره سنة 1431هـ، في ديوان سمّاه “الأسى في مدح ورثاء أهل الكساء”، أما شعره الآخر فلم يعتنِ بجمعه وحفظه فضلاً عن طباعته.
أما الكتابة فإنه عمل مؤخراً على كتابة بعض مجالسه وجمعها في كتاب أسماه “المجالس العاشورية.. في التفسير والتاريخ والأدب”، وعمل معه تلميذه الخطيب علي الباشا، ونقل بعض المجالس من الأشرطة المسجلة للملا أحمد وأضافها للكتاب، فاحتوى الكتاب على 35 مجلساً، 34 لعشرة محرم ومجلس ليوم الأربعين.
ديوانه المطبوع في رثاء أهل البيت يحتوي على قصائد متنوعة بالدارج والفصيح.
▪️▪️▪️▪️
أول مأتم حضرته
▪️عندما قدمنا إلى الدمام عام 1406 هـ، وكان ذلك بعد شهري محرّم وصفر، بدأت الدراسة وبدأنا بترتيب السكن في المعهد الصحي، وكذلك ترتيب وسيلة نقل للصلاة في مسجد الإمام الحسين (ع) في حي العنود.
▪️قلت لمن كان معي: أريد أن أحضر مجلسًا حسينيًا.
فقال لي: كيف تستعلم عن ذلك؟ ونحن لا نعرف أحدًا هنا!.
فأجبته: لا تخف عليّ، لدي علاقات ومعرفة، وسأتصرف.
▪️وهنا بدأت أبحث عن بعض الشخصيات المرتبطة بالمجالس، خصوصًا من أهل الأحساء الحبيبة، حيث مقر إقامتنا الأساسي في مدينة المبرز، حي الشعبة.
▪️وإذا بعيني تقع على المرحوم الحاج يوسف البحراني (رحمه الله)، المرشد السياحي ودليل كل شاردة وواردة في الدمام والمنطقة.
سلمت عليه، وعرفته بنفسي، وطلبت منه أن أحضر مجلسًا حسينيًا.
فقال: جاء طلبك في وقته المناسب، عندنا دعوة في نذر إلى بيت قريب من هنا، ولا تحتاج إلى سيارة، تعال ماشيًا.
قلت له: سأحضر زميلي، فهو ينتظرني هناك في ساحة المسجد.
قال: أحضره معك، وجهّز نفسك.
▪️بدأ يسألنا عن حالنا والدراسة، وكيف وافق أهلك على قدومك إلى الدمام وأنت صغير.
ابتسمت له وقلت: لا تخف، لدينا تجارب في السفر، والخدمة في المآتم، والأعمال التطوعية.
▪️ذهبنا إلى منزل كبير، ومجلس كما يقال: يطارد في الخيل — جميل، وكأن من يدخل هذا المنزل يشعر أنه حلُم، لولا المأتم الحسيني الذي لا يُشترط فيه دعوة ولا إذن، بل يُفتح ويُقال للجيران: عندي مجلس، إن لم تكن الدعوة مرتبطة بعقيقة أو مناسبة خاصة.
▪️وكان الخطيب هو الملا أحمد الخميس
(رحمه الله).
بدأ يقرأ وكأنه الملا أحمد الزيد، أو الملا ناصر خميس، أو الشيخ عبدالله السمين، أو السيد محمد حسن الشخص (رحمهم الله جميعًا)، ممن يردّدون عبارته المشهورة:
افرغ لي سمعك… أقبل عليّ بكلك.
▪️كان المرحوم يقرأ بأدب، وحكمة، وقصة، وكأنك جالس أمام موسوعة.
انتهى المجلس، وأنا في قمة السعادة؛ أن يكون عندنا في المنطقة مثل هذا الخطيب!
▪️سألت الحاج يوسف (رحمه الله) عن سيرة الملا، فقال: هو الخطيب المفضّل عندنا في المنطقة، ويأتي بين فترة وأخرى. ولدينا مجلس ليلة الغد في منزل آخر.
قلت له: إذن نلتقي في المسجد.
▪️حرصت على الحضور، وحفظت الكثير من الشعر والقصص منه. وبعد ذلك، تقرّبت منه، وكان لي وقت أجلس معه بعد أن حدثه المرحوم يوسف عني، وقال له:هذا يحب أهل العلم، ويحفظ ما تذكره من شعر وقصص وأمثال.
فقال الملا: إذن يصبح خطيبًا، ويصير منافسًا لنا!.
ابتسمت وقلت له: أنا أدرس طب، واتجاهي صحي.
▪️وكنا نحضر المجالس التي تُعقد في سيهات، نُصغي لكل ما يقول، وحتى الإرشاد الديني كان بأسلوبٍ فيه لينٌ، وبلاغةٌ، وودٌ.
▪️تكوّنت بيننا محبة ومعزة، حتى إذا داهمه المرض، وعجز عن القراءة، كنا نتحمّس لسماع أخباره، وإذا مررتُ بطريق سيهات القديمة، وشاهدت حسينية الخميس، دعوت له بالسلامة والعافية.
▪️واليوم، بعد رحيله إلى ربه، ندعو له بالمغفرة، ونقول:
يا ملا أحمد منصور علي الخميس، لقد خدمت، وصعدت المنبر، ويشهد من حضر لك أنك نِعْمَ الخطيب والمربي.رحمك الله، وحشرك مع محمد وآل محمد.
▪️رحم الله من قرأ سورة الفاتحة، قبلها وبعدها، على محمد وآل محمد.
▪️▪️▪️▪️