القلاع والحصون والزراعة في شرق جزيرة العرب

([1])
عدنان السيد محمد العوامي
1 – «وبعد تدمير مسقط أقلع البرتغاليون نحو صحار التي كان لها – آنذاك – قلعة كبيرة تحتاج إلى أكثر من ألف شخص للدفاع عنها». أرنولد ت. ويلسون ([2]).
2 – «ذكر بلاد البحرين وأعمالها: وهي بلاد واسعة شرقها ساحل البحر، وغربها متصل باليمامة، وشمالها متصل بالبصرة، وجنوبها متصل ببلاد عمان، وهي بلاد سهلة كثيرة الأنهار من العيون، عذبة الماء ينبطون الماء على القامة والقامتين، والحناء والقطن على شطوط أنهارها بمنزلة السوسن، وهي كثيرة النخل والفواكه، ولهم ثمر يسمى المانجي.. . أبو عبيد؛ عبد الله بن عبد العزيز البكري».
3 – «في رحلته الثانية إلى الهند عام 1502 بأسطول مكون من 25 سفينة قام بمطاردة سفينة غير مسلحة تجاه كلكتا كانت تحمل 200 أو 400 حاجَّا إلى مكة، واستولى عليها، حيث أحضروا أمامه ربانها، فقال الربان العربي لدي جاما: سيدي، إنك لن تكسب شيئًا لو أمرت بقتلنا، فأمر بتقييدنا بالأغلال الحديدية وانقلنا إلى كلكتَّا، وإذا لم يشحنوا سفنكم بالفلفل والبهارات دون مقابل؛ فلك، عندئذٍ، أن تأمر بحرقنا. فقال له الربان قائد السفينة: سوف تحرقون أحياءً، وأقول: إنه ليس هناك شيء في هذا العالم يمكن أن يمنعني من أن أقتلكم مائة مرة لو كان في الإمكان أن أقتلكم كل هذه المرات. . . فاسكو دي جاما»([3]).
هذه المقالة نشرت في مجلة الواحة قبل 24 عاما، وآثرت أن أعيد نشرها هنا لما لاحظته من استمرار سيطرة الوهم القديم الجديد حتى على أذهان النخبة من مثقفينا. ذلك الوهم هو نسبة بناء القلاع والحصون واستجلاب الزراعة في الخليج وشرق جزيرة العرب إلى البرتغاليين، حتى أن علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر (رحمه الله) رأيناه يأخذ به عند تعرضه لذكر قلعة تاروت، حيث قال: >وتعتبر جزيرة تاروت من أهم الثغور البحرية لبلاد القطيف، فكانت – في العهود القديمة – ذاتَ ميناء ترسو فيه السفن من موانئ الخليج، ومن بحر العرب، ومن موانئ الهند، وقيد شيد فيها البرتغاليون قلعة عظيمة([4])<.
وقولي إنه أخذ بهذا التصور الشائع يستند إلى عدم إشارته إلى مرجعه؛ خلافًا لما عُهِد منه، ومثله صنع مثقف آخر هو الشاعر عبد الرسول (عبد الله) الشيخ علي الجشي، فتحت عنوان: (الدمام في مدرجة التاريخ) كتب ما نصه: >ليس لدينا ما يدل على أن الدمام سُكِنت قبل هذا القرن كمدينة أو قرية لها مميزاتها، وكل ما لدينا هو أنها اتُّخِذَت – في بعض الأحيان – مصيفًا للطارئين من البدو، ومرسى لسفن الغوص عندما تضطرها الرياح للجوء إلى البر القريب، وكان بئرها العذب الواقع في البرج البحري مورداً يَستقي منه الغواصون، وعند هذا البرج حدثت الموقعة البحرية بين رئيس الجلاهمة رحمة بن جابر، وبين أمراء البحرين من آل خليفة سنة 1242هـ، والأثر التاريخي الوحيد القائم فيها حتى الآن هو برجُها البحري الآنف الذكر. وقد بناه (البرتغاليون) لحماية القطيف حينما بنو (برج أبو الليف) في وسط البحر والقصر في جزيرة (تاروت)<([5]). هذه ثالثة الأثافي: قلعتان، وبرج؟ لك كل الحب والتقدير يا أستاذنا الكبير أبا قطيف؛ أوافقك في التاريخ، وأستميحك العذر في مكان الموقعة فهو في ميناء القطيف، وليس في الدمام([6]).
قبل أن أوغل في الحديث عن القلاع يحسن أن أنبه إلى أن قلعة تاروت سبقت مجيء البرتغاليين إلى الخليج بما يقرب من ثلاثة قرون؛ فالبرتغاليون لم يظهروا في الخليج إلا سنة 913 هـ 1507م([7])، في حين ورد ذكر قلعة تاروت في خبر استيلاء ملك قيس الأتابك أبي بكر السلغري علبها سنة 641 هـ، ومقتل أكبر شيوخ بني عامر فيها وهو أبو عاصم بن سرحان([8])).
وما يبين لنا، بوضوح، سيطرة هذا الوهم على أذهان الناس حتى النخبة المثقفة منهم كما قلت؛ نرى أديبًا كبيرًا هو الوزير الأسبق الأستاذ تقي الحاج محمد البحارنة ينتهز فرصة زيارته لعاصمة البرتغال لشبونة فيبادر للبحث عن الخرائط الأصلية لقلعة البحرين المعروفة باسم (القلعة البرتغالية)، معتقدًا أنه ما دام البرتغاليون هم الذين شيدوا تلك القلعة فمن المؤكد أنهم أعدوا لها خريطة.
ولكي نتحقق من رسوخ هذا الاعتقاد عنده ننقل ما دوَّنه بهذا الصدد حرفيًّا، فتحت عنوان: (أوراق برتغالية) كتب ما نصه: >وتساءلت – فيما بيني وبين نفسي – لو أن (مكرم) هذا نجح في صدِّ الغزاة البرتغاليين؛ لكان قد حال بينهم وبين احتلال البحرين وبناء القلعة وبالتالي قد حال بينهم وبين انتهاب الثروات واختزانها بين جدران القلعة، ولكن البحرين كانت ستفتقد – مع ذلك – أحد المعالم التاريخية المهمة التي تجتذب إليها السائحين، وتثير فضول العلماء والمنقبين ….<([9])؟
وفي مكان آخر نقرأ: >وساعدني صوت من خلفي على أن أنتزع نفسي وأفكاري الشاردة من أشجان الصورة التي كنت أتأملها، والماضي الذي كنت أسترجع أيامه؛ ليعود إليَّ إحساسي بالزمان والمكان. كنا – آنذاك في دار المخطوطات والوثائق التاريخية في لشبونة يرافقني الوزير المفوض للبرتغال في القاهرة، ولم يكن ذلك الصوت سوى صوت المدير العام للدار يٌنهي إليَّ – بنبرات من الأسف – أنه لم يوفق – رغم ما بذله من جهد – للعثور على الملف الذي يحتوي على المخطط الأصلي لقلعة البرتغال في البحرين …<([10]).
لعل أبا أسامة فاته أن القلعة التي بحث عن مخططها في البرتغال كانت موجودة قبل وصول البرتغاليين إلى الخليج، وأن الشيخ مقرن بن زامل الجبري، الذي سمَّاه الأستاذ: (مكرم)، كان متحصِّنًا فيها، حين هاجمه البرتغاليون، فقد أخبرتنا الوثائق العثمانية؛ بأنَّ الشيخ أو السلطان مقرن وضع الاستحكامات والمتاريس قرب قلعة البحرين، وأن البرتغاليين أطلقوا على القلعة المدافع، وأصابوا بعض جدرانها فتصدَّعت، واستمر الرمي ثلاثة أيام<([11]). وهو عين ما وقع لقلعة القطيف عند غزوهم لها، كما سنرى لاحقًا.
قلاع الخليج أقدم من قلاع أوروبا
قد يكون غريبًا أن يعلم القارئ بأن أوروبَّا لم تعرف القلاع ولا الحصون الحربية إلا في القرن العاشر الميلادي، أواخر القرن الرابع الهجري، على يد القائد النورماندي وليم الفاتح (WilliamtheConqueror)، أو النغل (William the Bastard)، على الرغم مما يقال عن القلاع الرومانية التي ظهرت بين القرن الثاني والخامس الميلادي، فتلك المسماة قلاعًا لم تكن – في الحقيقة – سوى أبراج خشبية تقام على الروابي والمترفعات لرمي السهام والحراسة، ولم يُجرِ الأوربيون أيَّ تغيير عليها إلَّا بعد الحروب الصليبية؛ مما يشير، بوضوح، إلى مدى استفادة الأوربيين من خبرات العرب في مجال الدفاعات الحربية، في حين عُرفت القلاع في الشرق منذ إنشاء سور الصين العظيم في القرن الثالث للميلاد([12]).
ولست هنا بصدد التأريخ لنشأة القلاع، لكن ثمة إشارات لا بدَّ من الإلمام بها حين الحديث عن القلاع الحربية في شرق الجزيرة العربية، فمن المعروف أن مدينة خيبر، حين غزاها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في السنة السابعة للهجرة (629م)، كان بها حصون عدة، وقصة اقتحام الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لأكبر حصونها واقتلاع بابه هي من أشهر قصص الفتوحات الإسلامية.
ولربما عُدَّ هذا أوَّل ذكر للقلاع في العصر الإسلامي، ثم يتوالى ذكر القلاع بعد ذلك، فتذكر قلعة الحدث شمال الشام حيث فتحت على يد حبيب بن مسلمة الفهري في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)([13]) ، وبعدها تذكر جملة من القلاع والحصون ذكر منها المقدسي البشاري (ت 375 هـ) في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ثمانية عشر حصنًا في جزيرة العرب، غير ما أغفل ذكره منها كحصون البحرين، ومنها جواثا، ويرد ذكرها في حرب ما زعم من رِدَّة أهل البحرين([14])، ومنها ما أجمله إجمالاً كحصون اليمامة، إذ أجمل حصونها بعبارة: >اليمامة ناحية قصبتها الحجر، بلد كبير جيد التمور، يحيط به حصون ومدن منها الفلَج([15])).
ثم يأتي ناصر خسرو، وهو معاصر للمقدسي، فينبئنا بأنه شاهد سنة 443هـ،1501م في فلج وحدها: >أربع عشرة قلعة للصوص والمفسدين والجهلة…< ([16]) تحتل رقعة من الأرض لا تزيد على: >نصف فرسخ في ميل عرضًا…< ([17])، كما شاهد باليمامة >حصنًا كبيرًا قديمًا… <([18]). أما قلعة الأحساء وأسوارها الأربعة فهي من الشهرة والأهمية بحيث أنه بدأ بها عند وصفه للأحساء([19])، وهذا ما قاله بالنص: >إن الحسا مدينة تحاط – هي وتوابعها – بسور، و لها أربعة بروج مشيدة، وما بين كل سور وآخر مسافة فرسخ([20])).
وإذا بحثنا عن القلاع والحصون في عهد ياقوت الحموي (ت 626 هـ 1228 م) فسنجد أن كثيرًا منها كان قائمًا في البلاد العربية، ومنها شرق وجنوب الجزيرة العربية، وإن شئنت الدقة قلنا إن بعض القلاع كان موجودًا في الخليج قبل ياقوت بزمن ليس بالقصير، كقلعة القطيف، والزارة؛ فقد كانتا موجودتين منذ القرن الثالث الهجري([21]).
هذا هو حال القلاع في بعض البلاد الإسلامية، غير أن ما يهمنا هنا القلاع التي كانت قائمة في الخليج عند وصول البرتغاليين إليه، من هنا يصبح من المفيد أن نلم – بإيجاز – بما ذكره الغربيون عن القلاع في الخليج قبل وصول البرتغاليين إليه:
– أرنولد ويلسون عن الطبري: >كان – في أيام أردشير، أوائل القرن الثالث الميلادي – في البحرين – ملك يدعى ساتيرون Satiron أحاط نفسه بقلعة حصينة، وقد أرسل أردشير – جريًا على عادته في فتح البلاد المحيطة بفارس – جيشًا إلى البحرين، وبعد حصار دام سنة؛ استولى الملك الفارسي على القلعة، وقبض على الكنز، وعاد إلى فارس بعد أن ترك ابنه سابور الأول نائبًا عنه([22])<.
– أرنولد ويلسون يصف الأحساء نقلاً عن ناصر خسرو سنة 1051م: >وكانت – في الأصل – قلعة في البحرين ليست بعيدة عن هجر العاصمة القديمة للمقاطعة… واسم الأحساء ينطبق على المدينة والضواحي والمنطقة حولها والقلعة، ويحيط بها أربعة أسوار متحدة المركز بنيت بإحكام من الطين، والواحد منها مفصول عن الآخر بمسافة فرسخ([23])<. أنيه هنا إلى أن ترجمة ويلسون والخشاب لعبارات خسرو توحيان بأن لقلعة الحسا أربعة أسوار مفصولة عن بعضها البعض، لكن الأمر ليس كذلك. ففي الأصل الفارسي الذي أسلفناه أن: >الحسا مدينة تحاط هي وتوابعها بسور ولها أربعة بروج مشيدة، وما بين كل برج وآخر مسافة فرسخ…<([24])، وهذا هو الأقرب إلى التصور.
– أرنولد ويلسون عن أبي الفداء: >وفي القطيف على الساحل توجد أشجار نخيل، ولكنها أقلُّ عددًا من الأحساء، كما أن هناك أماكن يغوص فيها الرجال على اللؤلؤ، وقد أخبره أحد أبناء القطيف بأن للمدينة سورًا وبوابات أربع، وخندقًا، وفي حالة المد العالي يلامس البحر السور([25])<.
– أرنولد ويلسون نقلاً عن الإدريسي: >قيس مربعة الشكل، ولها مدينة يقال لها قيس أيضًا، احتلها أحد حكام اليمن، وقد حصنها وملأها بالسكان، وزودها بالأسطول<([26]).
– أرنولد ويلسون عن القزويني (توفي 1275م): >إن المدينة (قيس) كانت ذات مظهر مفرح، وكان فيها قلعة وعدة بوابات وبساتين<([27]).
– أرنولد ويلسون ينقل وصف هرمز عن الأب أودريكFriar odoric (1330م): >كانت مدينة محصنة تحصينًا قويًّا، وتشمل مخازن ثمينة تبعد خمسة أميال عن البر الأصلي([28]). ص: 191 ) .
– أرنولد ويلسون: >وبعد تدمير مسقط أقلع البرتغاليون نحو صحار التي كانت لها آنذاك قلعة كبيرة تحتاج إلى أكثر من ألف شخص للدفاع عنها<([29]).
أما س. ب. مايلز([30]) Samuel Perret Miles فينص على وجود القلاع في الخليج قبل وصول البرتغاليين بزمن بعيد. ففي حديثه عن هجوم القائد البرتغالي داكونها على سوقطرة في أول ظهور للبرتغاليين في الخليج سنة 1507م يقول: >ولهذا عمد القائد البرتغالي إلى قصف حامية البلدة، وتمكن في النهاية من احتلالها رغم المقاومة العنيفة التي أبداها المهرة، وقد قام البرتغاليون بإعادة بناء القلعة، وأطلقوا عليها اسم السنت (القديس) توماس، وعين دوترونا قائدًا على الحامية<([31]).
وعن وصول القائد الأعلى للبرتغاليين إلى عدن يقول: >غير أن البوكيرك كان لا يجهل بأن الأسطول الذي تحت تصرفه لا يسمح له بالاستيلاء على قلعة عدن الحصينة، ولهذا آثر أن يخرج على الأوامر التي صدرت إليه<([32]).
وليس من الإنصاف أن لا نتيح الفرصة للبرتغاليين – في ختام هذه الفقرة – للإدلاء بشهادتهم في هذه القضية، فلنقتبس من أحد قادتهم، وهو برنالدين دو سوزا من رسالة بعثها إلى ملك البرتغال في لشبونة سنة 1545م جاء فيها: >أخبرني لوبوش فلكاو أنه – منذ ست سنوات انتزع ملك الأحساء الشيخ مانعMana من مملكة هرمز قلعة ومدينة القطيف، وأنه – منذ ذلك التاريخ – وملك هرمز ووزيره يطلبان من القباطنة السابقين، وكذا منه، أن يُمِدُّوه بالعون اللازم لاسترجاعها، وذلك طبقًا لما نحن ملزمون به بشأن كل الحصون التابعة لمملكة هرمز، وليس فقط هذا الحصن الذي استولينا له عليه في عهدنا هذا([33])<.
نتابع: >وفور جمع كل ما كان ضروريًّا انطلقت من جديد، وفي اليوم التالي اقتحمنا الميناء الذي دخلناه خلال الليل، ووطئت أقدامنا الأرض قبل الفجر فكان في انتظارنا ثلاثة آلاف (3000) أو أربعة آلاف (4000) محارب كانوا بالمدينة قتلوا لنا حوالي ثلاثين أو أربعين فارسيًّا من فرقتي وبرتغاليين اثنين، وقلتنا لهم – بدورنا – عددًا أكبر مما أجبرهم على الابتعاد عن المدينة التي كان باقي سكانها قد فروا عنها، وبما أن اليابسة أضحت آمنة فإننا أنزلنا المدفعية التي شرعت – فور ذلك – في قذف الأسوار في قسم لم يكن يتوفر على خندق. وهكذا قصفناه خلال أربعة أيام، أي أكثر ما يمكن للمدفعية أن تتحمله، وبما أننا لم نتمكن إلا من إسقاط قسم منه على علو يسمح باستعمال السلاليم [كذا!]، فإنني قررت اقتحام المدينة قبل إسقاط قسم أكبر لمناعة تلك الأسوار، خصوصًا بعد أن علمت بأن نفس الملك قادم للدفاع عنها لكونه كان بالأحساء التي تبعد عن القطيف بمسيرة ثلاثة أيام، وأنه كان على رأس 14000 أو 15000 محارب وعدد كبير من الفرسان وضاربي البنادق. .. وبعد تحطيم ما استطعت تحطيمه سلمتها للرئيس نور الدين([34]) بالشكل الذي سلمت باقي قلاع مملكة هرموز . . . وإن عناية الله قد أحاطت بنا، لأن أرض البحرين موبوءة كما يعرف جلالتكم من خلال موت الجنود الذين رافقوا سيماو دا كونيا، والبحرين لا تتفوق كثيرًا على القطيف، ولو شدة الخضرة، وكثافة الغطاء النباتي فيها، إذ لا يمكن رسم صورة أجمل منها في العالم كله<([35]). أظن أن هذا يكفي لدحض كل الأوهام التي نسجت حول بنائهم القلاع في الخليج.
الزراعة
ومما يلحق بهذه الأوهام التي علقت بالأذهان عن البرتغاليين وأعمالهم في الخليج؛ ما سطره المرحوم محمد علي التاجر في كتابه (عقد اللآل في تاريخ أوال )، وعنه نقل يوسف حسن، وهذا نصه: >وهكذا خضعت البحرين للحكم البرتغالي المطلق، وتَوَحَّد هؤلاء بحكم البلاد لا ينازعهم فيها منازع، فرتبوا أمورها، وأصلحوا شؤونها، وكل ما من شأنه أن يعود عليهم بالدخل الوافر والخير الكثير، وحسنوا حالة مغاص اللؤلؤ، وسهلوا أسباب إخراجه، ورتبوا أوزانه، وقدروها، وأصلحوا الأراضي، وشجعوا الزراعة، فزرعوا فيها القطن والحنطة والشعير والرز، وشادوا فيها القصور العالية، والحدائق الغناء الناضرة، وجلبوا إليها أنواع الفواكه والأزهار وغير ذلك<([36]).
ألله! الله! ياللرغد والرفاه! وياله من كرم ونبل لم يفه به البرتغاليون أنفسهم.
استند المرحوم التاجر إلى كتاب سماه (كتاب بلاد العرب الجنوبية)، لم يذكر مؤلفه، ولا جهة نشره، ولا أدري من أين جاء مؤلف الكتاب بهذا الكلام المؤنس الذي لم يقله البرتغاليون أنفسهم، وفي ظني أنه لم يدُر بخلد أحد منهم أن يأتي كاتب في آخر الزمان يحيل- بجرة قلم – كل الفظائع والكوارث التي أصابوا بها المنطقة إلى إصلاحات وتنمية وتعمير، تمامًا كما يفعل بها الأمريكان اليوم من تدمير وسلب، ونهب، وامتهان للإنسان مما يسميه دعاة التغريب تنوير وتحضر.
إذا كان ثمة عذر يمكن تلمُّسه للشيخ التاجر (D)، فهو أنه لم يُلِمَّ الإلمام الكافي بالتاريخ، وإلا لعرف أن كل ما نسبه للبرتغالين من عمل في البحرين كان موجودًا فيها قبل أن تنشأ البرتغال ذاتها، فالبرتغال – حتى العصور الوسطى – لم تكن تتميز عن أسبانيا. وفوق ذلك فإن ما ذكره من النباتات ليس من محاصيل البرتغال أصلاً، فهي إنما تشتهر بالكروم والزيتون، والفلين والحور والسنديان([37])، وهذه ليست مما يزرع في البحرين، وفضلاً عن ذلك فإن كثيرًا من البلدانيين، ومنهم البحار العربي أحمد بن ماجد، وصفوا البحرين بكثرة المزروعات، ومما اشتهرت به عندهم الرمان والتين والإترج (الترنج) والليمون. ولكي تتجلى لنا صورة البحرين قبل مجيء البرتغاليين إليها أنقل ما قاله الملاح العربي الشهير أحمد بن ماجد في صفتها، وهذا نص ما قال: >الجزيرة الثامنة، وهي البحرين المتقدم ذكرها، وتسمى أوال، وفيها ثلاث ماية وستون قرية، وفيها الماء الحالي من جملة جوانبها، وأعجب ما فيها مكان يقال لها القصاصير، قال ﭨ {هَـٰذَا ﭕ فُرَاتٌ وهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاج}؛لأنه مختلط المالح من فوق والحالي من تحت، وهو على ثلاث قامات رجل طويل، أو ثلاثة أبواع، يغوص الإنسان في البحر المالح بالقربة ويملأها من الماء الحالي وهو غرقان في الماء المالح، وحواليها معدن اللؤلؤ وعدة جزر كلها معادن اللؤلؤ، يأوي عليها قريب ألف مركب.
وفيها جملة قبائل من العرب، وجملة تجار، وفيها جملة من النخيل المثمرات اللواتي تضرب بها الأوصاف، والخيل والإبل، والبقر والأغنام، وفيها عيون جارية، ورمان، وتين، وإترج وليم([38])، وهي في غاية العمارة، وهي في تاريخ الكتاب لأجود بن زامل بن حصين العامري أعطاه لها هي والقطيف السلطان سرغل بن نور شاه…<([39]).
والبكري أيضًا يتحدث – في كثير من التفصيل عن مزروعات البحرين الكبرى، ومنها أوال بطبيعة الحال – فيقول: >وهي بلاد واسعة شرقيها البحر، وغربيها متصل باليمامة، وشمالها متصل بالبصرة، وجنوبيها متصل ببلاد عمان، وهي بلاد سهلة، كثيرة الأنهار من العيون، عذبة الماء، ينبطون على القامة والقامتين، والحنَّاء والقطن على شطوط أنهارها بمنزلة السوسن، وهي كثيرة النخل، والفواكه، ولهم ثمر يسمى المانجي إذا نبذ وشرب اصفرت الثياب من عرقه، وبساتينهم على نحو ميل منها، لا يأتونها إلا غُدُوًّا ورواحًا؛ لإفراط حرِّ الرمضى، وإن حوافر الدوابِّ تسقط فيها إدا احتدمت، وهي مخصوصة بعظم الطحال، ولذلك قال بعض الشعراء [طويل]:
ومن يسكن البحرين يعظم طحاله
ويغبط بما في بطنه وهو جائع
ولها سبع مدن، وعلى ساحلها، منها القطيف، والزارة، والعقير([40])، وأوال، وهي جزيرة بينها وبين الساحل مجرى يوم، وهي كثيرة النخل والموز والجوز والإترج، والزرع والأشجار والأنهار، ومما يلي أوال جبل في البحر أسود، يسمى الحارم([41])، يقيم به الغوَّاصون الأشهر.
بعد وصف جزيرة أوال وأحوالها مع القرمطي، عاد إلى البحرين الكبرى، فقال: >وبلاد البحرين منها الكثبان جارية الرمال حتى يسكرونه بسعف النخل، وبما غلب عليهم في منازلهم، فإذا أعياهم حملوا النقوض وتحولوا، وفي البحر حزائر على مسيرة يوم ويومين وثلاثة، فيها آصار وخرائب، وبها جزيرة خارك، وهي على أربعة فراسخ من جنابا، وليس بها الآن من البناء إلا صومعةراهب، وبها جذر عظيم يقطع بالقدُّوم لعظمه.<([42])، والبكري توفي سنة 487هـ، أي قبل مجيء البرتغاليين بما يقرب من خمسة قرون.
وغير هذين وجدنا المقريزي يذكر ما كان يأخذه أبو سعيد الجنابي من أهل المنطقة، وفيه الحنطة والشعير([43])، وقبل المقريزي وصف ناصر خسرو الأحساء بأن بها مطاحنَ للحنطة([44])
————-
([2])الخليج العربي، سير أرنولد ويلسون، نقله إلى العربية وترجم له عبد القادر يوسف، نشر مكتبة الأمل، الكويت، د. ت. ص: 207.
([3]) تاريخ عمان، تأليف وندل فيلبس، ترجمة محمد أمين عبد الله، إصدار وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، المطابع العالمية، روي، الطبعة الثالثة1409هـ، 1989م، ص: 40 – 41.
([4])المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية المنطقة الشرقية (البحرين)، الشيخ حمد الجاسر، منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1399هـ، القسم الأول، ص: 285.
([5])جريدة الفجر الجديد، (الدمام في مدرجة التاريخ) بفلم عبد الرسول (عبد الله) الجشي، العدد الثاني، السبت 25 رجب 1374هـ، الحلقة الثانية، ص: 3.
([6]) عنوان المجد في تاريخ نجد، عثمان بن عبد الله بن بشر، حققه وعلق عليه عبد الرجمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، الرياض، الطبعة الرابعة، 1403هـ 19983م، جـ2/52-53، وساحل القراصنة، تشارلز بلجريف، ترجمة مهدي عبد الله عبد الرسول، وفاروق أمين محمد، نشر دار الخيال للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2006م، ص: 150- 151، وتاريخ الأحساء السياسي، د. محمد عرابي نخلة، ذات السلاسل، الكويت، 100هـ، 1980م، ص: 36، ودليل الخليج، ج. ج. لوريمر، القسم التاريخي، أعد الطبعة قسم الترجمة بمكتب أمير دولة قطر، د. ت. جـ3/1427.
([8])إمارة العصفوريين ودورها في تاريخ شرق الجزيرة العربية، مجلة الوثيقة مركز الوثائق التاريخية. البحرين، السنة الثانية العدد: 3. رمضان 1403هـ، يوليو 1983م، ص: 43.
(([11]صفحات من تاريخ النفوذ البرتغالي في البحرين، مجلة الوثيقة، السنة الأولى، العدد الأول، رمضان 1402هـ يوليو 1982هـ. ص: 133 – 134، نقلاً عن الإمبراطورية العثمانية وطريق الهند، أوزبران، مجلة كلية الآداب بإسطنبول، العدد 31 سنة 1978م، مترجم من التركية للإنجليزية، ولنفس المؤلف: الأتراك العثمانيون والبرتغاليون في الخليج العربي، ص: 21.
([14])فتوح البلدان، محمد بن يحيى بن جابر البلاذري، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، نشر مؤسسة المعارف، بيروت 1407هـ 1987م، ص: 114
([15])أحسن التقاسم في معرفة الأقاليم، محمد بن عبد الله المقدسي البشاري، دار صادر، بيروت، مصورة عن طبعة ليدن 1906م، ص: 77 – 93
([16])سفر نامة. رحلة ناصر خسرو إلى لبنان وفلسطين ومصر والجزيرة العربية. نقلها إلى العربية د. يحيى الخشاب. دار الكتاب الجديد. بيروت. الطبعة الثانية 1970م. ص: 139 – 142.
([20])نفسه، وسفرنامه، حكيم ناصر خسرو قبادياني مروزي. شرح وتعليق الدكتور محمد دبير سياقي. الطبعة الثانية، الناشر مكتبة زوّار – طهران
([30])الخليج العربي، بلدانه وقبائله، س. ب. مايلز. ترجمة محمد أمين عبد الله. منشورات وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان. الطبعة الرابعة، 1410 هـ، ص: 207.
([36])عقد اللآل في تاريخ أوال. محمد علي التاجر. مؤسسة الأيام للصحافة والطباعة. والنشر. البحرين. بدون تاريخ. ص: 94، والوطن في شعر أبي البحر الخطي، سلسلة من ينابيع البحرين، يوسف حسن، منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات. دولة الإمارات العربية المتحدة. الطبعة الأولى، 1999، ص: 16.
([40]) في الأصل: الزرادة، مكان الزارة، والعقيد، مكان العقير، والصواب: ما أثبتناه، وكلتاهما موجودتان إلى الآن، والزارة من قرى العوامية في القطيف، والعقير تتبع الأحساء، وهي شرقيها بنحو ستين كيلاً تقريبًا، وهي ميناؤها الوحيد.
([41]) الصواب: الجارم، بالجيم المعجمة، ويسميه النوتية: فشت الجارم، وهو سطح صخري مرتفع يغمره الماء حين المد، وينكشف إذا انحسر عنه الماء خطر على السفن حين الجزر.
([42])المسالك والممالك، لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري،حققه وقدم له أدريان فان ليوتن، وأندريه گوري، الدار العربية للكتاب، والمؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات (بيت الحكمة) تونس، 1992م، جـ2/370 – 372.