[16] قبس من سماء رمضان

الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*

 

{واصْطَنعْتُكَ لنفسي} طه/ 41:

يمتنُّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على عبده ونبيه وكليمه موسى عليه السلام؛ إذ تأتي هذه الجملة الخبرية حاملة معنى الاصطفاء للكليم عليه السلام، اصطفاء للنبوة وتبليغ الرسالة. والفعل (اصطنع) متجذّرٌ من مادة (ص ن ع). وقد وردت هذه المادة في تصرفات وتراكيب مختلفة في القرآن الكريم على نحو عشرين موضعا، تكون في موضعين منها منسوبة الفعل إلى ربنا -سبحانه وبحمده- وهما الآية المذكورة، وقوله تعالى في النمل: (صُنْعُ الله الذي أتقنَ كل شيء) 88.

وأمّا اصطنعتك، فقد جاء في التفاسير بأنها تعني اجتبيتك واصطفيتك رسولا لنفسي أي كما أريد وأشاء. وفي المفردات للراغب الأصبهاني: ” في ذلك إشارة إلى نحو ما قال بعض الحكماء، أنّ الله تعالى إذا أحبّ عبدا تفقّده كما يتفقّد الصديق صديقه”. فكأنّ الاصطناع بزيادة الهمزة والطاء والألف هو فعل أطول زمنا من الفعل (صنع)، وهذا من لطيف البلاغة في التصريف للكلمة. فالآية الكريمة في مقام تفصيل لحوار سيدنا موسى مع رب العزة والجلالة، وفيها إشارة لأول السياق في قوله: ( ولتصنع على عيني)، حيث تستعرض الآية أول الولادة والنشأة والبيئة التربوية التي صنعها الله برعايته لموسى عليه السلام. فكان أن هيأت المشيئة الإلهية للنبي الكليم ما يجعل تحقق معاني الاصطفاء قائما في الصنع قبل الاصطناع. فيكون الصنع ابتداء في أول الأمر، ثم الاصطناع نتيجة له. وبذلك يصبح موسى عليه السلام بتمام الاختيار موضع الصنيعة، ومقرّ الكمال والإحسان لأداء الرسالة والبلاغ.

ومن جميل الاستخدام اللغوي أن يقال: فلان صنيع فلان، والولد صنيع والديه، والطالب صنيع أستاذه، وهي صيغة افتعال من الصنع، بمعنى الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه إضافة إحسان.

والآية الكريمة تشهد عناية الله وحفاوته بالرسول الكريم، مذ أن ولد وحتى بلغ مقام النبوة العظيم. فتقدم الآية وما قبلها اختصارا بديعا لقصة الكليم، فيكون: (ولتصنع على عيني) هو إيجاز لكل التفصيل الذي بدأ من أول القصة : ( إذ تمشي أختك فتقول…) وحتى مقام : (واصطنعتك لنفسي). والاصطناع متحقق بتحقق القرب من الله سبحانه، فلمّا كان موسى في مقام النبوة والاصطفاء الذي هو أقرب مقام يصل إليه العبد، كان الاصطناع سمة العبد المقرّب، وهو ما يعني أنّ مقام الاصطناع واسع، يمكن طلبه وقصده من العبد بالتقوى والتقرب إلى الله، ليدخل في خطاب ( واصطنعتك لنفسي). ومن عزَم على تحقيقه، لا يلتفت قلبه وعمله لغير ربه. ومن جميل هذا المقام المذكور في الآية الكريمة، أنّ الإمام البخاري رحمه الله، أفرد بابا في صحيحه، سمّاه : باب: واصطنعتك لنفسي، أورد فيه حديثا واحدا عن محاجّة موسى وآدم عليهما السلام.وفي ذلك بليغ إشارة إلى مقام الاصطفاء والاصطناع الذي منحه الله نبيه موسى عليه السلام.

ومن لطيف الختام، أن الآية الثانية في القرآن التي جاءت في نسبة فعل (صنع) لله، أنها جاءت بعد تفصيل لقصة النبي سليمان عليه السلام مع بلقيس ملكة سبأ، وهي قصة تحتلّ فيها الصناعة البشرية مكانة عالية، قد تدخل الغافل في حجب حقيقة التبصير الرباني للإنسان، وتوجيهه للنجاح الصناعي الحضاري، فختم السياق القرآني هذه القصة التي أثبتت انتصار الحق على الصناعة المادية ذات الأصل الباطل، بإثبات مصدر كل صنع لله، وإن كان البشر في ظاهره هو الآلة الفاعلة. فالخالق هو الواهب لأسبابه ومادته، فصار المصدر للكلمة (صُنع) مصدرا نكرة مضافا للفظ الجلالة، فيكون كل صنع وصناعة هو من الله جل وعلا. بينما استقر الورود الباقي لمادة صنع في القرآن الكريم مسندا للذات البشرية، مما يجعله ضمن الإمكانية المحدودة بما يتوفر من معطيات الطبيعة المخلوقة، وتوفيق الله قبل ذلك للإنسان.

والله أعلم

______________

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×